بدأ رمضان بثبوت الرؤية الشرعية لهلاله وارتبط المسلمون حول العالم بحركة الكون وسير الكواكب ليغيروا سلوكهم اليومي تغييرا انقلابيا وبدون مقدمات أو تدرج فلا أكل ولا شرب, وإقلاع مفاجئ عن بعض العادات وضبط دقيق لإيقاع الحياة ، فالامتناع عن الأكل قانون صارم إلى أن تشق المآذن الصمت معلنة موعد الإفطار.
فتصوم أمة كاملة، تصلي التراويح وتتبادل التهاني تجتمع في المساجد وتزور الأرحام وترتل القرآن في انسجام بديع بين الكون و الأمة امتثالا لأمر الله بالصيام وتحديد بدئه بقول الرسول الكريم " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته".
و في انصياع تام للرؤية الشرعية تتوحد الأمة الإسلامية في أدق تفاصيل الحياة اليومية وتنتظم في تأدية فريضة واحدة غير حافلة بحدود مصطنعة أو حسابات إقليمية ضيقة الأفق أو فصائلية مخجلة،
فصامت رام الله وغزة ولم يؤجل رمضان لما بعد حوار القاهرة أو إطلاق سراح المعتقلين من الطرفين كما لم يلغ الصيام بحجة ضعف مناعة الأجسام أمام انفولونزا الخنازير أو خوفا من انخفاض الإنتاجية في ظل الأزمة الاقتصادية. وتصوم الأمة رغم الحصار في غزة والتفجيرات وانعدام الأمن في بغداد ولم تفطر تحت القصف في أفغانستان والصومال أو الاقتتال في صعدة.
لم تستطع كل تلك الحسابات منع أمة من الانصهار في بوتقة واحدة والعيش في منظومة سلوكية انعدم نظيرها في ظل عالم مادي بعيد كل البعد عن القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية،
وبالرغم من كل الحملات التي تشن على وحدة الأمة وثقافتها وحضارتها إلى أن الحدث الرمضاني في عالميته يشكل برهانا على أن المعركة لم تنته بعد وأن الأمة وإن هزمت ماديا فإنها لم تهزم فكريا ولم تنل الهجمات الدعائية والإعلامية من القناعات المتجذرة في عقول أبنائها.
فالإسلام كمنهج حياة لا يقتصر في توحيد الأمة على الرؤية الشرعية لهلال رمضان بل يمتلك رؤية شاملة للحياة ورؤية سياسية لحل القضايا المصيرية للأمة يصعب إقناع المسلمين بغيرها وإن حاول البعض تضليلهم وإخضاعها لبعض الحسابات الإقليمية أو المصلحية, فقضية فلسطين لم تراوح مكانها عقودا لقلة المبادرات
أو التمويل أو المؤتمرات أو الخرائط ولكنها تراوح مكانها لأن أهل البلاد لم تثبت عندهم الرؤية الشرعية في تلك الحلول ويستحيل إقناعهم بها لحل قضيتهم, فلا يمكن أن تختزل قضية فلسطين بإزالة حاجز هنا أو مستوطنة هناك فأرض الإسراء والمعراج تشهد لصلاح الدين تقيده بالرؤية الشرعية للحل رؤية ثابتة في عقول الأمة وصدور أهل فلسطين ثبوت الهلال في رمضان لا تتغير وإن أفطر المقدسيون في الشوارع أمام بيوتهم التي أخرجوا منها وتسحروا على نشرات أخبار لا تذكُرهم، ولن تتغير وإن مات أطفال غزة تحت الحصار والقصف.
رؤية شرعية للسياسة تنقذ الأمة وتصون أرواح شبابها فلا تسمح بإقامة إمارة في سجن صغير يفتقر لأبسط مقومات الدولة ولا تبيح قتل المسلمين في المساجد في صراع على سيادة منقوصة بل على سيادة لا وجود لها، ورؤية شرعية رحيمة بآلاف المشردين من بيوتهم من اجل عيون الاستعمار في باكستان، رؤية واضحة لا تحتاج لمحكمة القاهرة التي تجرم من مد يد العون للأهل في غزة, رؤية عادلة ضد من قدم العراق وأفغانستان لقمة سائغة للغرب وجيوشه البربرية ...رؤية تزيل الغموض والتناقض عن تعريف الإرهابي في الصومال وغيرها من بلاد المسلمين هي كذلك لأنها مستمدة من المنظومة الفكرية الراسخة في أعماق الصائمين منبثقة من الشرع الذي لا تختلف عليه الأمة .
صامت الأمة ولم تخضع صيامها لأي حسابات ولعل هلالا آخر يتولد الآن يجمع المسلمين في دولة واحدة فتثبت الرؤية السياسية عند الأمة لتغير سلوكها الحضاري تغييرا انقلابيا شاملا يخرجها من حالة التبعية للغرب والإدمان على الذل والمذابح والاحتلال ونهب الثروات إلى الصيام عن المهانة والإمساك عن الخضوع لتفطر في أوطان ومقدسات محررة على ثروات مستردة لتعيد للأرض مكانتها في عقد الكون محكومة بقانون السماء.