كتب الدكتور إبراهيم أبراش مقالا بعنوان "كيف نرد على شروط نتنياهو: نعم لدولة فلسطينية منزوعة السلاح وليهودية إسرائيل" نشر في العديد من المواقع الإعلامية خلال اليومين الماضيين. والكاتب كان قد شغل منصب وزير الثقافة في الحكومة الفلسطينية التي شكلها سلام فياض بعد انشطار السلطة إلى سلطتين نتيجة احتدام الصراع الدموي على "دولة" غزة، إلا أنه "قد" يبدو في كتاباته الأخيرة مرتدا على نهجه السابق، فمثلا يقول في مقاله المشار إليه: "رأينا كيف آل مصير حركات مقاومة – سواء فتح أو حماس- إلى سلطة هزيلة محاصرة قايضت الجهاد والمقاومة بسلطة قميئة." وهي الجملة التي اختارتها ميدل ايست اونلاين افتتاحيةً لمقالته، ولعل هذا الكلام في ظاهره يشير إلى صحوة نخبوية يعيد الكاتب معها ترتيب الأوراق، ويعود بها إلى ثقافة الأمة من التمسك بالأرض ورفض الاحتلال على أي شبر من فلسطين. ولكن هذا الاستنتاج لا يصمد أمام عنوان مقاله، ولا أمام مضمونه، بل وقد يتحول المقال إلى التخذيل وربما يتضمن شيئا من التحريض، وهو يقول: "بل توجد حركات سياسية إسلاميةتطالب بقيام الخلافة الإسلامية، بل إن أصوات من حركة حماس تطالب بإعلان الإمارة في غزة وهناك جماعات أعلنتها–عبد اللطيف موسى زعيم أنصار جند الله أعلن الخلافة في مدينة رفح- وهناك من يتهيأ لإعلانها –حزب التحرير-.ونتمنى أن يتجنب أي طرف فلسطينيمسئول الإعلان الآن عن دولة إسلامية في فلسطين لأن ذلك سيعزز ويبرر المطالبالإسرائيلية بيهودية إسرائيل".
لا شك أن من حق الكاتب أن لا يُحمّل كلامه أكثر مما يحتمل، وخصوصا وهو يذكر كلمة "الآن" في أمنيته عدم إعلان دولة إسلامية في فلسطين. ولكن الكاتب الذي يحدد المشكلة في قوله "المشكلةفي رأينا لا تكمن بنزع سلاح الدولة الفلسطينية وحتى بنزع سلاح الفلسطينيين ولابيهودية الدولة الإسرائيلية بل في حدود الدولة الفلسطينية وحدود الدولة اليهودية"، يختصر الصراع في حدود جغرافية متناسيا "الثقافة" التي استوزر فيها، ومتجاهلا أن دولة يهودية تعني بلا شك صراعا عقديا مع أهل فلسطين ومن ورائهم الأمة الإسلامية، وبالتالي فهو يبيح للاحتلال أن يرى الصراع من منظور عقدي وينهى أهل فلسطين عن ذلك لئلا يكون في ذلك مبرر للاحتلال !
والمقال يبثّ التحريض على حزب التحرير في جملة "وهناك من يتهيأ لإعلانها –حزب التحرير". وهي بكل أسف جملة جاءت "سطحية" لا تنم عن إطلاع من وزير الثقافة السابق على ثقافة حزب التحرير، وهي مقحمة في موضوع لا تمت له بصلة.
فدولة الخلافة ليست دولة كرتونية تعلن في الحارات وأزقتها وترفع راياتها على أبوابها، ولا هي دولة الدمى التي تكون على مستوى "الميكي ماوس" يتلهّى بها زعامات ترمش أجفانهم صعودا ونزولا من شدة الإثارة أمام البسط الحمر التي تفرش لهم في العواصم العربية والعجمية. ومن يُحط بالثقافة ويتابع الحقيقية يدرك أن هذه الألهيات –بل المؤامرات- لا يمكن أن يتورط بها حزب عالمي يقض مضاجع الأنظمة العربية والعالمية في الشرق والغرب.
ولعلّي أسدي خدمة ثقافية لوزير الثقافة السابق بإحالته إلى مقال الأكاديمي المتخصص بشؤون الإسلام السياسي نعمان حنيف المنشور على موقع المراقبين الإعلاميين-أمريكا (Media Monitors) بتاريخ 31/1/2006 تحت عنوان: "الخلافة: التحدي الإسلامي للنظام العالمي" The Caliphate: Islam's Challenge to Global Order? by Noman Hanif. ليدرك منه –لا من ثقافة الحزب!- المعنى الثقافي والسياسي لعودة الخلافة، فلقد وُفّق ذلك الكاتب في وصف التحدي الذي تمثله الخلافة القادمة. ولا شك أن الدكتور أبراش عندما يقرأ ذلك المقال –بأصله الإنجليزي- يدرك البون الشاسع بين ما لديه وما لدى الآخرين من ثقافة حول الخلافة، ومن ثم لعل ذلك يدفعه إلى قراءة جادة للخلافة ومستوى العمل لها.
والمكتوب في المقال يقرأ من عنوانه: فالخلافة تحد للنظام العالمي، الذي يرعى دولة الاحتلال التي يرضاها الكاتب يهودية. ويدرك حنيف أن "الخلافة حسب تعريف الحركة السنية الإسلامية هي رئاسة عامة لكل المسلمين تهدف إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وحمل الرسالة الإسلامية إلى كل العالم، وهي وريثة الخلافة الإسلامية التي امتدت في يوم من الأيام من إندونيسيا إلى أسبانيا"، بينما يخشى الدكتور أبراش أن تعلن في حارات غزة، أو ربما في أزقة الضفة الغربية،ويدرك حنيف مستوى التحدي الذي تمثله الخلافة المرتقبة للعالم بدوله الكبرى فما بالك بدولة كرتونية تسمى "إسرائيل"، فيقول "بل أن التحدي الحقيقي الذي ستواجه المصالح الغربية والرأسمالية العالمية يكمن في مبادئ وسياسات الاقتصادوالجيش والعلاقات الخارجية"، بينما يخشى الدكتور أبراش من إزعاج دولة "إسرائيل" من ذكر الخلافة، مما قد يؤدي إلى رفضها إعادة تسمية سلطة هزيلة أو "قميئة" كما سماها، بدولة لا سلاح لها ولا اقتصاد.
إن المثقف المطلع يدرك أن الخلافة ليست تحديا للفصائل الفلسطينية في حارات غزة، ولا هي دولة تستجدى برفع شعارات المقاومة للوصول إلى طاولة المفاوضات، كما يقول الدكتور أبراش في وصف ذلك في قوله: "تاريخيا لم تكن وظيفة السلاح أو المقاومة الفلسطينية تحرير فلسطين بل تحريكالقضية سياسيا ولفت انتباه العالم لمعانات الشعب".
والخلافة ليست صراعا دمويا على سيطرة أجهزة أمنية لا تسير في الطرقات إلا بإذن الاحتلال، ولا هي سلطة اشمأز منها الدكتور الرنتيسي –رحمه الله- في مقاله المنشور على موقع المركز الفلسطيني للإعلام "هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟"، عندما قال: "من هنا ندرك أن أي حكومة تقوم في ظل الاحتلال، وبإذن منه، لابد أن تستوفي الشروط التي يضعها جنرالات الاحتلال، وهذه الشروط لن تكون إلا لصالح هذاالاحتلال"، وآمل أن يبقى ذلك المقال في ذلك الموقع ولا يمحى ليبقى شاهدا على مستوى التدحرج نحو ثقافة الانبطاح.
الخلافة هي دولة ترعب ساسة الغرب قبل قيامها وهم يتحدثون عن خطر انبثاقها في العديد من المناسبات وإن شاء الدكتور أبراش أن يسمع ما قالوا حول ذلك فليقرأ العدد السابق من مجلة الوعي. والخلافة هي التي تحرك الجيوش فيكون للجهاد أثر عملي ملموس في كنس الاحتلال نهائيا وضم فلسطين إلى جسد الأمة، ولا تكون المقاومة عندها ورقة ضغط على طاولة المفاوضات من أجل أن يمنّ الاحتلال على "المقاومين القدامى" بدويلة منزوعة السلاح، سواء أدرك وزير الثقافة السابق هذه الثقافة أم لم يدركها.