"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم"
إن العقل ليقف مشدوهاً مبهوراً، وهو ينظر إلى صنع الله تعالى في اليابان؛ حيث انغمرت الأرض- بما حملت من بيوت وسيارات ومصانع- بمياه المحيط خلال دقائق معدودات، وأصبحت السفن على ظهر الماء كريشة طائشة على جناح الموج، يحملها ويلقي بها على قارعة الطريق، وأصبح الآلاف من الناس تحت الردم والدمار، بين ميّت أو مفقود أو جريح أو مشرد!!.. والأكثر عجباً ودهشة من ذلك هو ما جرى للمفاعلات الذرية الآمنة في نظر اليابانيين، وما تبع ذلك من تهديد حياة مئات الآلاف من بني البشر !!
فهذا كلّه لم يحدث من اصطدام القمر بسطح الأرض، ولا بانشطار الأرض، ولا بوقوع نجم من النجوم على سطحها، إنما حدث نتيجة رجّة خفيفة في طبقة الأرض، فأدت إلى هذه الكارثة المروّعة، والتي وصفها خبراء الكوارث في اليابان بأنها أسوأ كارثة تضرب اليابان منذ الحرب العالمية الثانية !!..إن هذا الحدث الكبير ليضعنا أما حقائق عظيمة، لا بد من الوقوف عليها، والتمعن والتفكر والتدبر فيها، من هذه الحقائق؛
أولا: عظمة الخالق جلّ جلاله، وقدرته الكبيرة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ( الزمر / 67 )، ويقول: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ( يس / 82 )، وفي هذا درس بليغ لأولئك البشر من عبدة الأوثان؛ (عبدة بوذا)، أو اللادينيين، ويغفلون عن هذا الإله العظيم القادر المقتدر، ويكلون كل شيء إلى قدرتهم وذكائهم وصناعاتهم، ويتحوّطون تجاه الكوارث والزلازل والإشعاعات النووية بقدراتهم العقلية، وينسون القدير المحيط الذي لا يعجزه شيء في السماوات والأرض وما بينهما!!...
ففي هذه الآية الربانية العظيمة لفت للعقول المحدودة القاصرة؛ ممن يكلون الأمور إلى أنفسهم، وينسون أن هناك عظيم قادر مقتدر، وهو وحده الحامي، والحافظ من هذه الكوارث، ولا أحد سواه!!.. ولنا في قصة نوح عليه السلام عبرة كبيرة عندما خاطب ابنه قائلاً: {...يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} ( هود /42- 43 )، فلا عاصم من أمر الله عزّ وجلّّ إذا أراد شيئاً بالبشر، ولا مُنجي من ذلك إلا هو سبحانه وتعالى ..
ثانياً: إن في هذا الحدث العظيم درس لحملة الدعوة من المسلمين، وهو: كيف أن الله عز وجل يغيّر الأمور بقدرته سبحانه بين طرفة عين وانتباهتها ( ما بين طرفة عين وانتباهتها....يغير الله من حال إلى حال) وفي هذا طمأنينة لحملة الدعوة بقدرته سبحانه في حماية هذا الدين، وحماية حملته من المؤمنين العاملين، وتهيئة الظروف والأحوال التي تساعد في تقدّم الدعوة ..
فالله سبحانه وتعالى بقدرته هيأ الظرف لهذا الدين، ليبرز في ساحة الصراع الفكري بشكل لافت للنظر، بعد انهدام الفكر الاشتراكي ومنظومته السقيمة، وهيأ الأمور أيضاً بعد انهدام أفكار النظام الرأسمالي الاقتصادي؛ في حرّية السوق وغيرها من أفكار الاقتصاد، بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، التي عصفت بالمبدأ الرأسمالي سنة 2008 واستمرت حتى يومنا هذا، لدرجة أن بعض الخبراء والمفكرين بدؤوا يضعون أصابعهم على الفكر الاقتصادي الإسلامي كمنقذ للبشرية هذه الأيام، ثم هيأ الله تعالى الظرف بالانتفاضات والثورات العظيمة مع بداية هذا العام، حيث بدأت الشعوب تنظر للخلاص مما هي فيه من ظلمٍ وكبت، وبدأت بعض الأصوات في بلاد المسلمين تتعالى بأن المخلص هو الإسلام، في ظل دولة الإسلام!!..
ثم جاء هذا الإعصار أو (التسونامي)، الناتج عن الزلزال، ليخلق وقائع جديدة تبهر العقول، وتذكّرها بعظمة الخالق جلّ جلاله، وتجلب على العالم دوامةً اقتصاديةً جديدة، ستؤثر حتماً على اقتصاد العالم تأثيراً كبيراً، وخاصة انه قد أصاب ثالث الدول في قوة الاقتصاد عالميا، وتسبب بخسارتها للمليارات العديدة من الدولارات ..
ثالثاً: ما يترتب على هذه الكارثة من دمار اقتصادي على اليابان، سيؤثر حتماً على اقتصاديات العالم أجمع وخاصة أن العالم يعيش في ظلّ أزمة اقتصادية كبيرة.
فهذا الحدث ليس بسيطاً من ناحية اقتصادية، بل إنه كبيرٌ، وخسائره بمليارات الدولارات، وبالتالي سينتقل تأثيره على كل بورصات العالم، وعلى العملات بشكل سريع ومؤثر، وسيؤثر كذلك على أسعار البترول بسبب تأثر المفاعلات النووية، وبالتالي حاجة اليابان المتزايدة في هذا الظرف للطاقة البديلة عن المفاعلات النووية.
وبمعنى آخر سوف يكون محركاً جديداً في إثارة الأزمة المالية، وسحبها للوراء لتزداد انحداراً .. وفي هذا أثر كبير على الدول الاستعمارية وخاصة الصناعية الكبرى ..
إن الله عز وجل هو القادر المقتدر، الواسع المحيط هو وحده بيده مقادير الأشياء جميعاً، وما علينا إلا أن ننفّذ أمره سبحانه وتعالى، وننتظر النتائج منه سبحانه، فإنه قادر عليها، وهو على كل شيء قدير .
إن مثل هذه الأمور العظام لتذكرنا أن الله هو الناصر المعز المذلّ الرافع الخافض، وهو الذي يسوق الظروف ويهيئ الأسباب التي لا تخطر ببال، من أجل نصرة هذا الدين، ونصرة حملة الدعوة من شباب الدعوة حتى ولو كانوا في أقبية السجون، أو مستضعفين في الأرض .
قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} ( القصص/5) ، وقال: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ 62 وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 63 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 64 } ( الأنفال / 62-64 ) .صدق الله العظيم
حمد طبيب-أبو المعتصم
17-3-2011