لقد فتحت شبكة الإنترنت أبواب الحقيقة التي كان الحكام يغلقونها بإحكام، وصار بإمكان الإنسان البسيط أن يتابع ما يجري في أصغر حي من أحياء قرية تائهة في أطراف الأرض، إذ أن شبكات التواصل الاجتماعي والمنتديات وحاضنات المقاطع المصوّرة من مثل اليوتيوب، تبث ما لا تبثه الفضائيات، وصار بإمكان شاب يحمل جهاز اتصال محمول أن ينتج "تقريرا إعلاميا" ويبثه في تلك المواقع من خلال مقهى إنترنت بتكلفة لا تتجاور الدينار الواحد، فيفضح تعتيم الفضائيات التي تصرف ملايين الدولارات لتمرير أجنداتها.
هذا الواقع ينطبق اليوم بشكل صارخ على ما يجري في تونس من "كتم" لصوت الخلافة، ومن حذف للمشاهد ذات الصلة في المسيرات عبر شوارع تونس من التقارير التي تبثها الفضائيات، ولا يحدث أن يتسرب (ولو صدفه!) شعار واحد من تلك الشعارات التي تصرخ بها حناجر المسلمين هناك، وقد بحت وهي تعلي الصوت عاليا ضد الظلم والجور وتوجّه الناس نحو الحل الجذري، وتحذرهم من إجراءات "المكياج" التي يجريها الساسة القدامى المتجددون.
وهنا تكفي جولة سريعة في بعض المنتديات وفي اليوتيوب لتُسمع الأصمَّ صوت الخلافة من قلب العاصمة التونسية من مساجد تونس، يحذر الناس أن "حكم الطاغية بن علي خرج من الباب في الخفاء ثم عاد من الشباك، بل من الباب، بعد كلِّ سفكِ الدِّماء!".
هب أن بعض المراسلين لم يلحظوا بعض تلك المشاهد، فهل افرزت معادلات التوافيق والتباديل الإحصائية أن كل المراسلين يمكن أن يكونوا كل الوقت بعدين عن كل المسيرات والنشاطات التي يقوم بها حملة مشروع الخلافة في تونس؟ بل وفي كل جغرافيا الأرض ! سؤال لا يمكن لعلم "العشوائية" في الرياضيات أن يقرره، ولكن سخافة الفضائيات تمارسه!
لقد ركزت بعض الفضائيات، ومنها الجزيرة، على مشهد صورة جيفارا، وكررته حتى مل المشاهد اللون الأحمر، وتتابعت الفضائيات في استضافة الرموز اليسارية والديمقراطية، ومن كل عاصمة أوروبية، وكأن كولومبس قد سحب تونس معه في رحلة العبور خلف المحيطات وكأن أهل تونس قد نسوا الإسلام كما مسحته محاكم التفتيش الغربية من الأندلس، وكأن السياسة هي لعبة حمراء يسراء!
لماذا هذا التعتيم المقيت من قبل الفضائيات على صوت الخلافة وعلى نشاطات حملة دعوة الخلافة ؟
سؤال يتكرر كل مرة عندما يرتبط الأمر بدعوة الخلافة حيثما كان الموقع الجغرافي: تتابع الاعتقالات والأعمال الوحشية ضد دعاة الخلافة في الدول التي تفتقت عن الاتحاد السوفياتي من حملة وصلة "ستان" في أسمائها، ولا صدى يتردد حتى في شريط إخباري، وتتحرك المسيرات في شوارع باكستان وفي أزقة بنغلاديش وليس ثمة ما يحرّك تلك الفضائيات وكأنها مسيرات فوق سطح القمر، وينهي دعاة الخلافة حملة تواقيع مليونية ضد انفصال جنوب السودان، ولا من تقرير عابر، وتصرخ جموع الخلافة في إندونيسيا في وجه أوباما عندما زار اندونيسيا ولا من ذكر لتلك الجموع التي تصرخ في وجه زعيم الأرض! ويكررون عقد المؤتمرات الإعلامية في لبنان يبيّنون مواقفهم من كل قضية من قضايا الأمة، ويؤكدون كفاحهم لإعادة السلطان المغصوب للأمة، ولكن الفضائيات تكرر تعتيمها!
ليس في الأمر صدفة، بل هناك أمر يدبّر بليل، توافقت عليه فضائيات الشرق والغرب: أن صوت الخلافة مجلجل، ولا مجال لأن تكون الفضائيات منبرا له.
ليس ثمة شك أنه إذا ذُكرت الخلافة ذُكر حزب التحرير، وإذا ذُكر حزب التحرير ذُكرت الخلافة.
وليس ثمة شك أن الأنظمة وفضائياتها تخشى صوت حزب التحرير وأصداء دعوته للخلافة، لأنها تدرك أنه صوت لمشروع يعمل على كنسها جميعا، بلا مفاوضة ولا مهادنة، وليس ثمة حل وسط عنده، بل إنه يؤكد باستمرار أن القائمين معه لن يقعدوا حتى يتم خلع آخر حاكم من الحكام الرابضين على صدور الأمة والكاتمين لأنفاسها.
وهو صوت ينادي في تونس أن هروب الطاغية، هو خطوة لا غاية، وأن تغيير النظام لا ينتهي بتغيير الأشخاص، وهذه دعوة خطيرة على الأنظمة وعلى من يقف وراءها، لأن القوى الغربية تكون دائما جاهزة برجالها-الاحتياط- يستبدلون من يُحرق منهم، في مشهد ساخر كمشهد "مختارنا الجديد يتقدم إليكم".
إذن، هنا مكمن الأمر، إذ كيف يمكن لأنظمة ترتعد فرائصها من الخلافة أن تفتح المجال لصوت الخلافة؟ وكيف يمكن لفضائيات تتحرك في فضاء الأنظمة أن تفسح المجال لصوت الخلافة ؟!
ومع ذلك كتب البعض فغالطوا وتناقضوا
من الغريب أن بعض من يدّعي التحليل الإعلامي والمتابعة السياسية ينسب المطالبة بالخلافة في تونس لمن لا يقبل أن تنسب إليه، فمثلا تحدثت بعض التقارير (المكتوبة) عن تخوف اليساريين من الخلافة في تونس، ولكنها نسبت دعوة الخلافة لحركة النهضة التونسية التي تؤكد أنها ترفع شعار إسلام منفتح، كما يصرّح زعيمها الغنوشي –مثلا خلال لقائه ضمنبرنامج حوار مفتوح على الجزيرة في 17/1/2011، الذي بين فيه أن المهمة هي "مهمة بناء مجتمع ديمقراطي"، من خلال "دستور ديمقراطي"، فيه "تداول على السلطة" وتبني "قيم مشتركة بين كل المنظومة الديمقراطية"، ويفتح المجال "لتعددية بدون وصاية لأحد، لا إسلامي ولا غير إسلامي"، وأكد ذلك بالقول "إسلامنا نحن لا يجعلنا ننقص من الديمقراطية بل نعطيها أساسا دينيا"، وبالتالي فهو يدعو إلى "نموذج دولة ديمقراطية"، وكان قد شبّه النموذج الذي يدعو إليه بالنموذج التركي، وكل هذه المعالم التي يتحدث عنها تبتعد عن مفهوم الخلافة شكلا ومضمونا.
ومن تلك التقارير المغلوطة التي نسبت الخلافة لحركة النهضة وكتّمت على حزب التحرير، ما ورد على موقع ميدل ايست اونلاين بتاريخ 18/1/2011 من تصريح لعادل الشاوش، عضو المكتب السياسي لحركة التجديد التونسية، من أن الإسلاميين يسعون الآن إلى إعادة إنتاج "الخلافة الإسلامية" من خلال الثورة المرشدية"، وفسر التقرير المذكور تصريحات الشاوش أنها "إشارة إلى التحركات التي تقوم بها حركة النهضة الإسلامية". وكذلك الحال في تقرير موقع-وطن يغرد خارج السرب بتاريخ 18/1/2011 فهو عندما تساءل "هل تتجه تونس لتطبيق نموذج الخلافة الإسلامية ؟" تحدث عن النهضة دون أدنى إشارة لحزب الخلافة !
وبالطبع ليس المقام مقام تقويم لحركة النهضة وأفكارها، ولا شك أن دعاة مشروع الخلافة يريدون أن تتبنى حركة النهضة –كما كل قوى الأمة الإسلامية- مشروع الخلافة، ولكنها في الحقيقة لا تطالب بذلك، ودعوة الخلافة في تونس هي دعوة حزب التحرير.
إذن، مرة أخرى، عندما تُفصح التقارير والتحليلات المكتوبة شيئا حول فكرة الخلافة، لا تقبل أن تنسبها لمن تصدى لها منذ عقود، حتى في تونس، إلا في بعض التقارير النادرة، كذاك الذي نشره موقع العربية نت يوم 19/1/2011، الذي رسم الخارطة السياسية للحركات الإسلامية في تونس، وذكر أن بداية حزب التحرير في تونس تعود للعام 1973، وأنه "نجح في استقطاب عدد من العسكريين، بينهم ضباط، مما جعل الدولة تتهمه بالإعداد لانقلاب عسكري"، بل وأشار تقرير العربية نت إلى محاكمات أعضاء حزب التحرير "في أعوام 1983 و1986 و1990، وفي الأخيرة حوكمت مجموعة كبيرة ضمت 228 متهما. وفي 16-9-2006 أُحيل 8 أشخاص إلى القضاء بتهمة الانتماء لحزب التحرير". بل ويذكر التقرير "وفيما بعد تم اعتقال عناصر أخرى كثيرة مما يعني أنه كان مستمرا في تجنيد عناصر جديدة وتثبيت خلايا في تونس برغم الظروف الأمنية الصعبة التي كانت سائدة في عهد بن علي". ويخلص إلى أنه "لا يعرف الحجم الحقيقي للحزب...".
وهنا سؤال بسيط لفضائية العربية (التي أدانت تعتيمها على حزب التحرير من خلال موقعها!): إذا كان حزب التحرير جزءا من تلك الخارطة وبهذا الحضور السياسي، فلماذا لم يلاحظ المشاهد لقطة على فضائية العربية تشير لذلك اللون السياسي في مشهد تونس ؟ سؤال يعيدنا مرة أخرى للبحث عن إرادة خفية صارمة في كل ما يتعلّق بالخلافة وبحزبها.
لا شك أن شعار الخلافة يرعب الحكام لأنه يذكرهم بسقوطهم المدوي. ولا شك أن الإعلام في غالبيته موجه بأجندات السلاطين حتى ذاك الذي يدّعي الانفتاح ويتغنى بشعاره المفضوح حول الرأي والرأي الآخر بل حتى ذاك الذي يدعي أنه إعلام مقاومة.
لقد أدركت محطات التلفزة التونسية الحاجة للتعبير عما يجري قبل أن يجري عليها تغيير جذري، فقررت أن تفتح إعلامها للناس قبل أن تفتح الناس أبواب تلك الفضائيات عنوة، فهل تخرج فضائية "تونس الوطنية" الجديدة عن سرب الفضائيات العربية؟