الدكتور ماهر الجعبري – عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
لا أعرف تفاصيل قصة مهند نيروخ في سجن أريحا، ولم يسبق لي أن شاهدته، ولكني أدرك كيف تشعر أمه، وقد سمعتها تتحدث عن ابنها وهو في حالة موت سريري، سواء تأكد الخبر أم أنكرت السلطة كعادتها كلما فاحت رائحة جرائمها !
وكأم مهند، هنالك مئات الأمهات، بل ربما الألوف من اللواتي لُوعت قلوبهن وهنّ يرون أبنائهنّ يجرون إلى "المعتقلات الوطنية". وهناك ما يقرب من مئة أم تحسرنّ على قضاء أبنائهم ليال باردة خلال هذا الأسبوع، في سجون السلطة "الوطنية" لأن أبناءهن أدركوا معنى قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، فوقفوا يوصلون رسالة حزب التحرير، شامخين في مساجد الله شموخ جنود الله يعلنون أن السلطة مشروع في غضب الله وأنهم ماضون على الحق لا يخشون في الله لومة لائم.
لكل أم ابن هو أفضل أهل الأرض ؟ ومن يعاديه يعاديها ! وحق للأم أن تتملكها تلك الأحاسيس وخصوصا إذا كان ابنها ممن تُنكّل به سلطة تستقوي بالاحتلال.
ولا شك أن من يُمارس التنكيل والتعذيب هو الآخر له أم تدعو له: "الله يُحبّب عباده فيك"، إذ تظن أن ابنها يحمي الحمى ويدافع عن فلسطين، وخصوصا أن بعضهن يتذكّرن أن أبناءهن كانوا معتقلين عند الاحتلال لأنهم كانوا يرفضون ويقاومون الاحتلال.
ولكن مثل تلك الأم المسكينة لو أدركت أن ابنها موظف في مشروع لقمع أهل فلسطين، ربما داست برجلها على رقبته، في مشهد كذاك الذي حصل في أحد شوارع الخليل قبل عقد من الزمان، عندما داست أمّ على قلبها، وهي تصعد فوق رقبة ابنها –المذبوح- لأنه تعاون مع الاحتلال: مشهد لا أنساه ما حييت لأني أدرك معنى أن تدوس أم على رقبة ابنها أمام عباد الله، وهو يكاد لا يحبس دمعتي حتى بعد مرور عقد من الزمان عليه.
أينكن أيتها الأمهات الطاهرات !؟
أحس بأنين الأمهات وهن يتابعن أحداث القمع والتنكيل لأبنائهن، فلي أم كبقية الأمهات، وأذكر تماما ردة فعلها الطبيعية عندما أحاطها "الغفر" خلال الصيف الماضي يريدون اعتقال ابنها، فصاحت بحفيدها وهي تبحث عن حصا لترمي بها أعوان الشيطان، قائلة: "وين سيدك، قل له يحضر اسطوانة الغاز ليفجرها في هؤلاء"، وبالطبع جده شيخ فانٍ لا يقوى على حمل اسطوانة الغاز، وهي أرادت أن تلقن هؤلاء "الغفر" معنى من معاني العزة والأنفة وأن غضبة الأمهات أصعب من تفجير القنابل.
هي غضبة أمّ لا موقف سياسي ! وتلك هي مشاعر أمهات لا دعوات سياسية، وهذا الذي نُعاين في الأحداث اليومية هو صمت مقيت ممن يعتبرون أنفسهم قادة تحرر ورموز نضال ! فأي واقع مخز لحركة "تحرر وطني" وهي تتحول لحركة قمع وطني، في سابقة لم تحدث في التاريخ.
أين رئيس محكمة الفساد الذي شهد له بعض من عايشه أنه نزيه ! يا ابن عشائر الخليل الأصيلة: هل ترى هذا الفساد والإفساد ؟ وهل سمعت أنين أم مهند وأنات أمهات المئات من شباب حزب التحرير ؟ أم الحدود مرسومة والقضايا محكومة !
أيّ جُرم يرتكب باسم أهل فلسطين على مسمع ومرأى من "رجالها" ! لقد طفح كيل الاعتقالات التي تتوقّد تحت شرر التفكير الفصائلي المقيت، وفي ظل صمت قادة الفصائل وكأن الأمر لا يعنيها، ثم يريد هؤلاء "الزعماء" من أهل فلسطين -ومن بعد ذلك الصمت المفضوح- أن تنظر إلى تاريخ نضالها وما قدمت من شهداء باسم هذا النضال الذي تمخض عن قمع مقيت!
***
لقد خنست الرموز وحبست "القادة" ألسنتها في حلوقها كي لا يطالها شرر التنكيل: فيا أيتها الأمهات، إن استخذت القادة والرموز فليس لهذا البلد إلا أنتن !
ويا حفيدات الخنساء: إن خرّبت الدولارات منطق القيادات فإن منطق مشاعركن الفطرية لم يخرب ولن يخرب.
إن هذا التغول السياسي الذي تمارسه السلطة الفلسطينية لن ينفع معكن ولا مع المخلصين من الذين لا يخشون في الله لومة لائم، وخصوصا أنه تغوّل في زمن النور لا العتمة، في زمن انكشاف الأقنعة، وزمن انحسار الكبت، بعدما وفّر فضاء الإنترنت جدرانا واسعة لكي "يخربش" عليها الغاضبون عندما لا تسعهم شاشات الفضائيات لكي يصرخوا في وجوه الظالمين.
إن للمضربين عن الطعام من المنكّل بهم تحت ذريعة الصراع الفصائلي، ومن معهم من المعتقلين بمنطق التغول السياسي، حق على كل مخلص من أهل فلسطين أن يعلي الصوت مدويا في سماء هذه الأرض المباركة، التي عبر منها البراق نحو السموات العلا: أن كرامة أهل هذا البلد غير قابلة للدوس عليها من عتاة الأعداء في الأرض، فكيف يحاول امتهانها أبناء هذه الأرض !
كيف يقف الناطق باسم الأجهزة الأمنية يبرر جرائم أجهزته ؟ بل ويتطاول بالتصريح بحظر حزب التحرير الذي كان في فلسطين قبله، وقبل سلطته، بل وقبل منظمته، بل وربما قبل أن يولد هو شخصيا ! وهو نفسه كان قد جاهر –بلا خجل- يعلن قبول منطق "تنسيق السجين مع سجانه"، وهو يقرّ -رغم شاراته العسكرية التي تعلو كتفه- أنه مجرد سجين !!!!!!
إذا كان مجرد سجين كحال أهل هذا البلد تحت الاحتلال، فلماذا هذا التغول السلطوي ؟
لا شك أنه تغول نابع من حالة استقواء بالعدو، وهو استقواء لا يلبث أن يبان فساده، عندما يدير لهم العدو ظهر المجن، والكيّس من اعتبر بمن نسق مع هذا الاحتلال قبله.
وهو تغول أجوف، لأن حالة الاستخذاء أمام جرائم المستوطنين جلية واضحة للعيان، فالقوي قوي حيثما كان، والضعيف ضعيف حتى ولو انتفخ، كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد!
بل إنه تغول مفضوح مع انكشاف حالة الانبطاح السياسي أمام لؤم الكيان اليهودي في تعجرفه على "القيادة الفلسطينية"، بل واعتقال بعض أعضائها في بعض المناسبات دون اعتبار لأي خدمات.
وهو تغول لن يجدي نفعا أمام الكرامة والعزة التي يرضعها المسلم مع حليب أمه: إذ لم يستطع المحتل أن يروض أهل فلسطين على قبول الذل رغم جرائمه النكراء، ولم تستطع أمريكا أن تروض مجموعة من المقاتلين المبعثرين في جبال أفغانستان على قبول الاحتلال، ولا أن يقبلوا بمن يحكم "ببسطاره" ومن ينطق باسمه، فهل تستطيع سلطة هزيلة يديرها مجموعة من "السجناء" (!) أن تروض المخلصين على قبول الذل ؟
إن الأخطر من خيانة الخائنين في التفريط بأرض فلسطين والاعتراف بالمحتل، هو ما يحاوله أولئك المتغوّلون من إعادة تشكيل وعي أهل فلسطين على قبول الذل !
إن الكيّس الفطن يعتبر بمشهد بوش –بعد أن تجبّر- فطالته نعال الشرفاء يدافعون عن كرامتهم! والأجدر بالكيس الفطن أن يحسب حساب "انتفاضة النعال" وخصوصا إذا قادتها الأمهات الطاهرات !؟!
ومن لم تمت أمه فهو قوي بها، ومن ماتت أمه فإن لمهند أما يفيض حنانها نحوه.
إن هذه رسالة مفتوحة لكل المتغولين والمستقوين بالأمريكان والصهاينة، ولكل من لم يقرأ التاريخ منهم ومن لم يفقه الواقع ومن لم يستشرف المستقبل: أن اذهبوا والعبوا بعيدا عن المخلصين والأقوياء بعزة دينهم، ولا تقتربوا من حزب يعيد صياغة الحاضر، ليعيد وصله مع التاريخ المشرق، وليصنع من بعده المستقبل المورق.