بقلم المهندس باهر صالح / عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
يلاحظ المتابع السياسي للمشهد الأمني في الضفة الغربية أنّ هنالك تغيراً واضحا في نهج السلطة الفلسطينية في التعامل مع المعتقلين السياسيين، فمنذ ما حدث في غزة من اقتتال بين فتح وحماس منتصف عام 2007 والذي آل إلى سيطرة حماس على قطاع غزة، منذ ذلك الحين والسلطة الفلسطينية وجدت لنفسها مبرراً قويا لملاحقة كل من لا يتماشى مع مشاريعها، سواء أكان من حماس أم من الجهاد أم من حزب التحرير الذي لا يمارس إلا الأعمال السياسية الصرفة ولا ينافسها على هذه السلطة الوهمية، وكل ذلك تعلقه السلطة على شماعة انقلاب غزة.
فاعتقلت السلطة من اعتقلت، وعذبت من عذبت، وكثير من تلك الانتهاكات والتجاوزات موثقة لدى المؤسسات الحقوقية المنتشرة، وكانت الأجهزة الأمنية تحتجز المعتقلين السياسيين إلى أن تكتفي من احتجازهم بمحض إرادتها، معولة في ذلك على خوف الناس وذوي المعتقلين من اللجوء إلى مقاضاة الأجهزة من خلال محكمة العدل العليا، خوفاً من أن تطالهم أيدي الأجهزة الأمنية هم أيضاً، ووصل الحال ببعض الناس من شدة الخوف أن لا يجرؤوا على الذهاب إلى المؤسسات الحقوقية.
وليت الأمر يتوقف على الناس فقط، بل الكارثة أنّ الخوف قد وصل إلى الإعلاميين ووسائل الإعلام -والتي سيمتنع الكثير منها عن نشر هذا المقال لنفس السبب-، وصل الأمر بهم أنهم كانوا لا يجرؤون على نشر أخبار الاعتقالات السياسية.
ومضت الأشهر وتغير الحال، ربما بعد أن أيقن الناس أنّ الخوف لا يغير ولا يبدل في الحال وأنّ إيثار السلامة ليس بالضرورة أن يؤدي إلى السلامة، وربما لأنّه طفح الكيل، وربما لأنه حصلت حالات ونجح فيها ذوو المعتقلين في إخراج المعتقلين من سجون الأجهزة رغماً عن الأجهزة من خلال قرار من محكمة العدل العليا، كما حدث مع شباب من حزب التحرير في بلدة بديا - قضاء سلفيت، والتي كانت أولى المحاولات الناجحة في كبح جماح الأجهزة الأمنية. وربما أنّ العوامل كلها مجتمعة هي ما تسببت بكسر حاجز الخوف.
فكثر الناس الذين رفعوا رؤوسهم عاليا، وقالوا لا للظلم، فكثرت القضايا المرفوعة لدى محكمة العدل العليا والتي عادة ما تحكم بوجوب الإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين نظرا لمخالفة توقيفهم للقانون الأساسي، والذين عادة ما يتم توقيفهم على ذمة القضاء العسكري الذي يخرج عن صلاحياته النظر في قضايا المدنيين والسياسيين.
وهكذا بدأت القضايا المرفوعة لدى محكمة العدل العليا بالازدياد شيئا فشيئا، حتى وصل الحال إلى أن غصت المحكمة العليا برام الله بمثل هذه القضايا في الآونة الأخيرة (وهي التي تسمى قضايا الموقوفين).
أزعج ذلك الأجهزة الأمنية التي على الرغم من أنها كثيرا ما كانت ترفض تنفيذ قرارات المحكمة العليا، إلا أنّها أحيانا أخرى كانت تضطر للاستجابة للقرار تحت الضغط الإعلامي والمتابعة الحقوقية. فتحايلت الأجهزة على ذلك بأن ابتدعت فكرة جديدة لعلها تستطيع مجابهة هذا التيار الذي بدأ يقوى ويقوى. وكانت هذه الفكرة هي محاكمة السياسيين عسكريا، بأحكام تتناسب مع المدة التي يريدها الجهاز لإبقاء المعتقلين لديه، مع الزيادة طبعا.
مثلما حدث مع الأستاذ محمد الخطيب، والأستاذ شاهر عساف، عضوي حزب التحرير الذين حكمت عليهما المحكمة العسكرية بالسجن ستة شهور وشهرين ونصف على التوالي، على الرغم من وجود قرارين من محكمة العدل العليا بالإفراج عنهما، وغيرها من الحالات المماثلة لعناصر من حركة حماس، وهكذا.
ليس المقصود من هذا المقال التأريخ ولا التوثيق الصحفي، ولكن الفكرة التي أريد أن أخلص إليها، أنّ هناك تغيراً قد حصل، تغيراً في ردة فعل الناس تجاه الظلم والتعسف وتعاطي الصحافة مع هذا التغيير نسبياً، وهو ما الجأ الأجهزة الأمنية إلى التفكير بحيلة جديدة للتعامل مع هذا القدر اليسير من الجرأة.
وهذا ما يدفعنا إلى القول بأنّه ينبغي على الناس وعلى وسائل الإعلام والإعلاميين والحقوقيين رفع درجة الجرأة لتحصيل الحقوق، فالأجهزة الأمنية لا شك أنها قد خسرت أحد خنادقها التي كانت تتمرس فيها، وهو التعويل على خوف الناس. وصحيح أنها عادت لتتمترس وراء خندق جديد -المحاكمات العسكرية للسياسيين- ولكنها بلا شك فد خسرت خندقا، وواردٌ جداً أن تخسر الخندق التالي. فلا شك أن الناس قد نجحوا في الجولة الأولى في ملف الاعتقالات السياسية.
وما على الناس إلا الصدع بالكلمة والعمل السياسي لكشف جرائم الأجهزة الأمنية وتعسفها في التعامل مع السياسيين، والإصرار على إجبار السلطة على الخضوع لإرادة الشعب، فالحكومات ومهما أوتيت من قوة لا يمكنها أن تبقى صامدة أمام إرادة الشعوب الحية.
وبغير ذلك فسيكون مصيرنا هنا في فلسطين كمصير العراقيين في ظل دكتاتوريات العراق، والسوريين في ظل دكتاتورية الأسد، وغيرها من الأنظمة العربية التي أحالت الشعوب إلى أشبه بالأموات.
فهذه دعوة مفتوحة إلى أهل فلسطين أن لا يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء الظلم والاضطهاد الذي يتعرض له أبناؤهم، دعوة مفتوحة إلى الأعمال السياسية الجادة من أجل إيقاف الظالم عند حده.
وهي كذلك دعوة إلى وسائل الإعلام لتقوم بواجبها المنوط بها للتعبير عن هموم الناس وآلامهم، وتسليط الأضواء على مصالح الشعوب وآمالها، بدلاً من تسليط الأضواء على زيارات وتصريحات ورحلات المسئولين والتي في أغلبها لا تعدو أكثر من استعراضات مسرحية.
فلا للاعتقالات السياسية، ولا لاستغلال القانون لأغراض فئوية حزبية، ولا للقانون الظالم نفسه.