في ظل الجمود السياسي في المسيرة التفاوضية، يدور جدل في الأوساط الأمريكية حول البرامج السياسية على الساحة الفلسطينية، ويروج مصطلح "الفياضية"، بشكل لافت في الفترة الأخيرة، بين أوساط المراقبين والمحللين الغربيين، مما يستوجب وقفة إعلامية حول هذه الظاهرة مع استشراف لمآلاتها ومفاعيلها.
فقد نشرت مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية (Foreign Affairs) والتي يصدرها مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، أحد كينونات التفكير الإستراتيجية الشهيرة (Think Tank)، تقريرا حديثا يتحدث عن "الفيّاضية" كطريق ثالث نحو فلسطين، بعد طريق المفاوضات الذي حل محل طريق الكفاح المسلح الذي تخلت عنها القيادات الفلسطينية، كما يتحدث التقرير.
وكالعديد من تقارير مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية، يتضمن هذا التقرير رؤية أمريكية للتوجهات السياسية نحو القضية الفلسطينية، حيث أعده روبرت دينن، الذي كان جزءا من فريق "الرباعية" في القدس الذي يترأسه مبعوثها بلير، وكان مسئولا في مجلس الأمن القومي الأمريكي في مجال الشؤون "الإسرائيلية"-الفلسطينية.
ويذكر تقرير الشؤون الخارجية أنه: بعد ما يقرب من قرن من هيمنة شعار "الكفاح المسلح" على الحركة الوطنية الفلسطينية، تأتي إستراتيجية فياض كإضافة تكميلية لمسيرة أوسلو، بل وتبدو ظاهريا كبديل عنها. وبوتيرة هادئة، أطلقت حكومة فياض خطة يصفها التقرير المذكور -مُمجدا- بأنها "مختصرة ومقتضبة جدا"، بل وأنيقة في بساطتها وعصية على النقد بمنطقها، وهي ترسم الطريق نحو الدولة والاستقلال، ويؤكد أن الوقائع على الأرض تبرهن أن خطة فياض أصبحت أهم من "العشاء" (الأخير!) الذي جمع عباس وننتياهو في واشنطن، والذي لم يتمخض عنه شيء جوهري.
ومن ثم ينظر التقرير للفياضية على أنها "واعدة"، ويوصي "إسرائيل" بدعم فياض في تحقيق رؤيته.
وعلى خلاف توصيات هذا التقرير، كانت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي (كينونة تفكير أمريكية أخرى) قد نشرت تقريرا لناثان براون في أيلول الماضي، بعنوان "فياض كشخص ليس المشكلة، لكن "الفياضية" كبرنامج ليست الحل للأزمة السياسية في فلسطين"، حيث عقّب الكاتب فيه على دراسة ناقدة للفياضية كان قد نشرها، وبيّن كيف تلقى براون عاصفة من الأسئلة والانتقادات حول دراسته تلك. ويدافع براون عن نقده للفياضية، من خلال تأكيده على فشل منطق "الادعاء" بأن العملية السياسية نجحت في العراق وأفغانستان، مصرا على أهمية التنمية المؤسسية في سياق "العمليات السياسية المتجذّرة". ويحذر ويخلص بالقول "فالاعتماد على "الفياضية" وحدها -...- يُحتمل أن يؤدي إلى الفشل وخيبة الأمل"، لأنها كإدارة تكنوقراطية قد تُحسّن الأداء المؤسساتي ولكنها "لا تدّعي تقديم حل للمشاكل الأعمق التي تعاني منها الحياة السياسية الفلسطينية، المُتمثّلة بالانقسام والقمع والاحتلال والعزلة والفساد المؤسسي واسع المدى". ومن ثم يؤكد "ينبغي ألا تُستخدم كذريعة، كما هي الآن، لتأجيل وتجاهل القضايا السياسية الصعبة. فقد حان وقت التصدي للأزمة العميقة في الحياة السياسية الفلسطينية".
***
إذن نحن أمام موقفين أمريكيين من "الفياضية": موقف المتبني لها والموصي بها خيرا، وموقف المشكك في جدواها دون ارتباطها بالعملية السياسية التفاوضية، ولعل هذا يسهم في تفسير جمود المشهد السياسي الفلسطيني الذي لا يبرح مكانه، إذ يُجرّ في أكثر من اتجاه.
وبغض النظر عن الموقف الرسمي للإدارة الأمريكية وترتيبها للأولويات في ظل تزاحم "الفياضية" مع "التفاوضية"، من الجدير وضع الظاهرة الفياضية في إطارها الصحيح كمشروع لبلدية (كبيرة)، ولذلك من الأجدر أن يتحول معها اسم "المشروع الوطني الفلسطيني" إلى "المشروع البلدي الضفاوي"، وخصوصا بعدما انقسم إلى غزاوي وضفاوي، ولعل هذا الاسم الجديد يدفع "المناضلين القدامى!" إلى التفكير مليا بمآلات ما تمجّدوا بها من مسيرة نضالية تختصر اليوم في مشروع البلدية.
إن هذا الوصف للمشروع واضح في تقرير روبرت دينن المذكور، الذي يصف الدور الذي يلعبه فياض على مسرح البراغماتية (الثالث)، بأنه يدور حول إعادة تشكيل المشروع الوطني من خلال البناء المؤسسي، حيث يُعيد فياض، كاقتصادي ورجل المال الدولي، صياغة "الوطنية الفلسطينية"، لتصبح قائمة على مفهوم التمويل والتمكين الذاتي، ويركز فياض في خطته، على ما يسميه التقرير "الحكم الرشيد"، وتعزيز الفرص الاقتصادية، والنظام والقانون، وبالتالي ضمان أمن "إسرائيل"، ومن ثم سد ذرائع الاحتلال.
ولا شك أن منطق فياض هذا مستمد من خلفيته (المهنية!) حيث تقتضي أن تُراعى في المشروعات مبادئ "الديمومة الاقتصادية" وتحقيق "الجدوى الاستثمارية"، ولذلك فهو يركز في مشروعه "البلدي" على الوصول إلى مرحلة دفع الالتزامات المالية من ريع "مشروع البلدية".
ولعل هذا المنطق هو فحوى ما أكده الناطق الرسمي باسم الحكومة الفلسطينية (غسان الخطيب) لمعا (في 3/1/2010)، حيث قال: "ماضون في الاعتماد على مواردنا"، ولا يجد القارئ في تفاصيل الخبر توضيحا لتلك الموارد خارج سياق مفهوم الجباية والضرائب، وخصوصا أن الخبر نص على "تفعيل جباية الضرائب وبالتالي زيادة الإيرادات الذاتية"، وبالطبع لا أحد من الحكومة يدعي أن السلطة تستخرج موارد طبيعية من "جبال يطا" أو "مسافر بني نعيم"، ولا حتى من آبار المياه الجوفية –بدون إذن الاحتلال الذي يسيطر عليها- فأي موارد ذاتية غير الضرائب في "الفياضية" ؟
طبعا، لا يخفى أن فياض دخل ساحة العمل الفلسطيني على حين غرة بعدما نجح في عالم المال والإدارة، وبينما تنظر بعض القيادات الفتحاوية لفياض بالريبة التنافسية، يتقدم فياض بهدوء نحو مشروعه الذي أخذ يحشد حوله مجموعة من "المدراء" الذين يحملون ألقاب الساسة لا صفاتهم، وإذ تشاكسه بعض القيادات الفتحاوية بين الحين والآخر كحال عزام الأحمد والزعارير، يستمر فياض في التقدم نحو بلديته دون أن يتورط معهم في جدل سياسي، لأنه يدرك أن من يملك مفتاح الخزنة هو من يستطيع أن يصمد، خصوصا في ظل هيمنة منطق "الاستثمارية".
إن اصطناع الرجال عبر تبني القوى الغربية لهم كان طريقا أساسيا في تنفيذ البرامج الغربية، وهو سيظل كذلك، وخصوصا بعدما اضمحلت ثقافة الشعارات وتمخضت عن ثقافة الدولارات. لكن الرجال المصطنعين لا يصنعون تاريخا مشرقا للأمة، فهم ليسوا أكثر من فقاعة تنتفخ في عمر زمن لا يكاد يذكر من تاريخ الأمة، ثم يتلاشون بلا أثر، كما تتلاشى الفقاعة بعد أن تفرغ ما فيها من غازات (ملوثة)، أما الرجال الذين يصنعون التاريخ فهم يبقون حتى بعد أن تذوب أجسادهم في الأرض.
ولا شك أن فقاعة "الفياضية" زائلة، ولذلك يؤكد ناثان براون: "الفياضية قد تبقى في موقع المسؤولية والقيادة لفترة قصيرة، لكنها لن تُحقق بما يعد به مؤيدوها".
إن الفياضية والتفاوضية منطقان متهافتان، وقد جربت الناس منطق التفاوضية على مدار عقدين، وهي الآن تجرب "الفياضية" كمؤسسة جباية لا رعاية ! وكم يجب على الناس أن تجرب حتى تتيقن أن الحل الواحد معلوم يقينا في ثقافة الأمة ! وقد أثبته التاريخ، وهو غير مطروح للتجريب، بل للتطبيق.