كان يود المرء لو أنّ هرولة مصر والأردن وتركيا والسلطة إلى مساعدة "إسرائيل" في إخماد حرائق الكرمل، التي أطارت عقول قادة "إسرائيل"، حيث أدركوا ضعف دولتهم بل عجزها عن التعامل مع حريق بالرغم مما تدعيه من تفوق وتطور يفوق كل دول المنطقة، فوجدت نفسها عاجزة ليس فقط عن إخماد الحريق بل حتى عن مجرد التعامل معه، إذ لم يكن لدى "إسرائيل" طائرة مروحية واحدة لإخماد الحرائق فاستعملت قوات الإطفاء طائرات رش المبيدات في محاولة لإخماد النيران. كان يود المرء لو كانت تلك الهرولة قد تمت بالخفاء ومن وراء الأضواء فلم يعلم بها أهل فلسطين والمسلمون، وبذلك كان سيهون وقعها عليهم، فلا يصيبهم حيرة أو صدمة وهو يرون أبناء جلدتهم يساعدون ألد أعدائهم.
ولكن الحكام أبوا إلا أن يشهدوا الخلق كلهم على سوء ما قدمت أيديهم، واتبعوا ذلك بخطابات وتكريمات بالكاد انتهت أمس.
فأن تقوم أمريكا -ولو بأجر مدفوع- وروسيا وفرنسا واليونان وبريطانيا وإيطاليا ودول الغرب كله بمساعدة "إسرائيل" في محنتها ومصيبتها أمر يفهمه الجميع، ولما لا تقوم و"إسرائيل" حليفتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ورأس حربتها المدبب في خاصرة الأمة الإسلامية؟!. فحتى لو اختلف هؤلاء مع "إسرائيل" في بعض القضايا الشكلية وغير الجوهرية ولكنهم يتفقون في المصالح المبدئية والأيدلوجية والإستراتيجية والتي لا يضرها ولا يفسدها الاختلاف في وجهات النظر.
أما أن تقوم تركيا والتي ما برد بعد دم مواطنيها التسعة الذين قتلتهم "إسرائيل" في المياه الدولية، وأن تقوم مصر التي تعتبر نفسها حامية حمى العرب في المنطقة، والأردن التي تعتبر نفسها الشقيق الأكبر للشعب الفلسطيني، والسلطة الفلسطينية التي تعتبر نفسها وريثة الشعب الفلسطيني الذي تتعامل معه وكأنه ميت لا رأي له ولا إحساس، أن تقوم هذه الأنظمة بمساعدة وإغاثة "إسرائيل" فهذا ما لا يمكن أن تقبله أو تفهمه العقول السليمة.
لا أحد يستطيع أن ينكر القيمة الإنسانية والتي جاء بها الإسلام وأقرها وحفظها ودعا إليها، كإغاثة الملهوف وإنقاذ الغريق، والتي سميت بالإنسانية لأنها تتعلق بالإنسان دون سواه من المخلوقات فلا علاقة للغابات ولا المنشآت ولا النباتات ولا الحيوانات بالقيمة الإنسانية.
فأن ترى شخصا يغرق فتهب لنجدته فهذا من القيمة الإنسانية، وأن ترى شخصاً يحترق فتسارع لمساعدته فهذا أيضاً من القيمة الإنسانية، أما أن تهب لنجدة العدو الفعلي حين ترى جبهته تحترق، أو جنوده يُقتلون أو بيوته تُهدم، أو دباباته تتفجر فهذا ليس من القيمة الإنسانية ولا يوجد لها تصنيف عند البشر الأصحاء، فالأصل أن تكون خسارة العدو وهزيمته غاية عند الخصم.
ثم، أليست الحروب يُقتل فيها الإنسان، ومن هذه الحروب ما تسمى بالحروب المقدسة؟!
أليس دفاع المرء عن نفسه ولو بقتل المعتدي مشروعا عند كل الأمم والشعوب؟!
أليس دفع العدو وقتله والتشريد به من خلفه غاية نبيلة يمدح فاعلها ويُوصف بالبطل؟!
ألا تكرم الدول جنودها وتوسمهم بالأبطال إذا ما قتلوا وهزموا الأعداء؟!
فإذا ما كانت كل هذه الحالات وغيرها صحيحة، وهي كذلك، فلماذا الاستخفاف بالعقول ووصف المساعدات التي قدمتها مصر والأردن وتركيا والسلطة "لإسرائيل" العدوة والمحتلة بالإنسانية.
إذا كانت الحرائق التي تكبد "إسرائيل" الخسائر المادية وتهز كيانهم النمرود وتفت من عضده وتكشف حقيقته الهزيلة أمام العالم، حالة إنسانية تستدعي استنفار "الأبطال"، فما هي الحالات المشروعة للنيل من "إسرائيل"؟
ألا يكفي 62 عاما من الاحتلال لبلاد المسلمين وتدنيس للأرض المباركة؟
ألا يكفي 750 ألف شخص تعرضوا للاعتقال منذ الاحتلال؟
ألا يكفي عشرات الآلاف من الجرحى وآلاف الشهداء ؟
ألا يكفي ملايين المهجريين والذين ما زال يعيش كثير منهم في بيوت من تنك؟
ألا يكفي آلاف اليتامى والأرامل والمشوهين الذين خلفتهم "إسرائيل"؟
ألا تكفي الجرائم المتواصلة والمتتالية بحق أهل فلسطين العزل، مزارعيهم وأطفالهم ونسائهم وشيوخهم؟!
فإن لم تكف كل هذه الجرائم وتدفع الدول العربية والمجاورة لتهب لقتال "إسرائيل" ونصرة فلسطين وأهلها، وإذا لم تتوفر لديها المروءة أو الشجاعة للقيام بذلك، أفعز عليها أن تترك النيران تأخذ بنزر يسير من ثأر أهل فلسطين؟!
لكنها الأهداف السياسية المريبة التي حركت هؤلاء.
فتركيا تريد أن تمد جسرا "لإسرائيل" ليسهل عليها إعادة المياه إلى مجاريها، خاصة بعد أن تعنتت "إسرائيل" واستكبرت حتى عن مجرد الاعتذار لقتلها تسعة من المواطنين الأتراك. فكأنه عز على أردوغان طول الشقاق والجفاء، فأراد حزب العدالة والتنمية الذي تنميه أمريكا وتساعده لتستخدمه في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، أن يعود للعب الدور المنوط به.
وأما الأردن ومصر فهما الحليفتان المقربتان "لإسرائيل" واللتان ما انفكتا تقدمان الخدمات لها وعلى رأسها الخدمات الأمنية، ولعل رسالة الملك عبد الله من هبته لنجدة "إسرائيل" هو ومبارك هي تلك التي قالها في كلمته الموجهة "لإسرائيل" والتي قال فيها أنه لو كان هناك سلام لهبت 57 دولة لمساعدة "إسرائيل".
وأما السلطة فهي التي ما انفكت تقدم الخدمات تلو الخدمات لعل "إسرائيل" تقتنع بها شريكا مناسبا للسلام، فهذه ليست الخدمة الأولى المجانية ولن تكون الأخيرة.
فهل هذه الأعمال بهذه الأهداف السياسية والتي لا تخرج عن سياسة الانبطاح أمام "إسرائيل" تستحق أن يتناولها البعض على أنها أعمال مشرفة ويُقلد من شارك فيها أوسمة؟!
إن هذه الأعمال لا تمت للناحية الإنسانية بصلة، ولا تنضوي تحت راية الأعمال السياسية المشرفة، والأولى بمن شارك فيها أو كان وراءها أن يخجل من سوء فعله وأن يتوارى عن أعين العقلاء، لا أن يرتكب الجريمة ويشهد عليها الشهود!!