سؤال يتردد على ألسنة كثير من المخلصين المنخرطين في العمل لإقامة دولة الخلافة، حين يظهر لهم طول الطريق وصعوبتها، وتكالب قوى الكفر وأدواتها من الحكام والزعامات، وتجهُّم القريب ممن كان يُظن أنه أخو العقيدة ورفيق الدرب. فإذا كان جناحا سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية قد قمعا نشاطات ذكرى هدم الخلافة، علاوة على القمع المتواصل في بلاد المسلمين الواسعة، وتعتيم الفضائيات (الرأي الأول والرأي الأخير) على نشاطات ضخمة ملأت الأسماع والأبصار مثلما ملأت الكفار صدمةً ورهبة... في ضوء كل ذلك: إلى أين وصلت الدعوة، وكم بقي لها حتى تنتصر؟
إن السؤال القائل: "كم بقي للدعوة حتى تنتصر؟" لا يمكن إجابته إلا بقول الله عز وجل: "أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ" لمن ثبت وواصل العمل بأقصى طاقته حتى يأتيه أمر الله وهو على ذلك.
وأما السؤال القائل: "إلى أين وصلت الدعوة؟" فهو سؤال مشروع، وإجابته متيسرة، لأن حامل الدعوة وهو يخوض غمار العمل في الأمة يحرص على قياس موقعه من الأمة، وموقع الأمة من الدعوة، ومواقع غيره ممن ينافسه على قيادة الأمة، أو ممن يتربص بدعوته حتى لا يكون لها النجاح في أخذ قيادة الأمة وبلوغ الغاية.
إن الإجابة المباشرة على هذا السؤال تكون بالإشارة للحقائق التالية:
• الرأي العام المؤيد لفكرة الخلافة في أوساط الأمة، ونجاح النشاطات والفعاليات المطالبة بعودة الخلافة عاماً بعد عام.
• فشل الأفكار والدعوات المناقضة للإسلام في إنهاض الأمة، كالقومية والاشتراكية والديمقراطية وما شاكلها...
• انكشاف أدوات الغرب في بلادنا من حكام وعلماء ومفكرين وسياسيين وفضائيات... وكفرُ الناس بهم ونفض الأيادي منهم.
• انكشاف زيف حضارة الغرب وما يدعيه من حريات وحقوق إنسان، تم ذبحها ودفنها في خضم ما سمي "الحرب على الإرهاب" وما تجلى في مذابح العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان، وسجون غوانتانامو وباغرام وأبو غريب...
• انكشاف عفن النظام الاقتصادي الرأسمالي، وما نتج عنه من أزمات متتالية، ومن سوء توزيع الثروة وشقاء الشعوب الفقيرة منها والغنية في ظل ذلك النظام.
• تصريحات المسئولين الغربيين عن مدى خوفهم من قيام الخلافة، وعقدهم المؤتمرات والدراسات لمحاولة تفادي خطرِ الخلافةِ او احتوائها عند قيامها، حتى أن مِن مفكريهم مَن اقترح قبول دولة الخلافة كواقع محتوم، والدخول في مفاوضات صلح معها قبل أن تقوم!
وكل نقطة من النقاط السابقة لها شواهدها وحججها التي يدركها كل متابع للأمور، فكيف بحامل الدعوة المنغمس في العمل، الحريص على قياس موقع الدعوة في الأمة وموقع الأمة من الدعوة؟
غير أن المجيب على السؤال الذي بدأنا به (إلى أين وصلت الدعوة، وكم بقي لها حتى تنتصر؟) لا بد أن يتطرق للمبشرات النصّيّة بعودة الخلافة وظهور الإسلام أي سيادته في جميع نواحي الأرض، ومنها قول الرسول الكريم في حديث صحيح رواه أحمد: (ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ الله بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز، أو بذلِّ ذليل، عزاً يعزُّ الله به الإسلام، وذلاً يذلُّ الله به الكفر.) فالكلام عن المبشرات النصّيّة –وهي كثيرة- لازمٌ لاستجماع القوة الروحية وقذفها في خضم المعركة، مثلما أن الكلام عن الإرهاصات الواقعية لازمٌ لاستجماع القوة المعنوية وترجمتها في قلوب العاملين إلى مزيد من الصلابة والشجاعة والإقدام والتحدي.
إلى جانب ما سبق من المبشرات والإرهاصات، يجدر بحملة الدعوة استحضار سنن الله تعالى في الصراع بين الحق والباطل، وضرورة احتدام الصراع حتى ينصع الحق ويهترئ الباطل. وهو المراد بعنوان هذا المقال: "وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ"، فهذه الآية جاءت في سياق معركة بدر، والتي ودّ الصحابة الكرام لو أنهم تجنّبوها بأن يأخذوا القافلة ويعودوا بها إلى المدينة بدون قتالٍ يُذكر، مع أنهم قد وُعدوا بالنصر في جميع الأحوال.
الصحابة الكرام كانوا أمام سيناريوهين: الأول هو أخذ القافلة والعودة بها إلى المدينة، وانتظار ما يكون من أمر قريش، هل تتفاوض أم تقاتل؟ وحتى لو اختارت القتال فإن المسلمين يأخذون وقتهم في الاستعداد، فهم لم يتجهزوا أصلاً لمعركة بهذا الحجم حين خرجوا لأخذ القافلة. وأما السيناريو الثاني فهو ما حصل فعلاً: نجت القافلة، وأرسلت قريش جيشاً للتدخل السريع، ولم يبق من مناص سوى الصدام العنيف.
الوعد الإلهي جاء بنوال إحدى الطائفتين: إما أخذ القافلة أو النصر في المعركة، ومع ذلك فقد مال المسلمون إلى السيناريو الأول، وودّوا لو أنهم يأخذون القافلة "غير ذات الشوكة". ولكن الله تعالى أراد شيئاً آخر "وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ"، أي أن الآيات ربطت بين اشتداد الصراع واحتدامه وبين إرادة الله تعالى أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين.
هذه حادثة واحدة من سيرة دعوة المصطفى عليه الصلاة والسلام، بيّنت سنّة من سنن الله عز وجل، وهي أن الصراع كلما اشتدّ واحتدم، كلما نصع الحق واهترأ الباطل، واقترب النصر بإذن الله. كلما يبست عقول الظالمين وازداد كبرهم واشتد بطشهم، كان الحق أقرب للظهور والغلبة، وكان الباطل أقرب لأن يُقطع دابره، ويُقذف في مزبلة التاريخ. ووعد الله تعالى بالنصر والتمكين موجود في جميع الأحوال، وهو متحققٌ لا محالة، طال الزمن أم قصُر، ولكن الله يريد أن يحق الحق ويبطل الباطل، ولذلك يختار للدعوة مسار الصدام مع الباطل، ويختار للظلمة مسار العناد والغطرسة، فيتسارع الصراع ويحتدم، مؤذناً بقرب ظهور الحق. الصراع في حقيقته هو بين إرادة الظالمين وإرادة الله رب العالمين!
وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. صدق الله العظيم