بعد عقدين من المفاوضات، وبعد أن قرر أن "الحياة مفاوضات" أو أن "المفاوضات الحياة !"، تذكر كبير المفاوضين صائب عريقات أن يقول: "إننا شعب تحت الاحتلال"!، وذلك في لقاءاته "الفضائية" تعقيبا على القرار اليهودي بإبعاد الآلاف من الضفة الغربية والقدس.
إذا كان هذا التوصيف ينطبق على الواقع تماما، فما الذي أنجره المشروع الوطني طيلة عقود من "النضال" الذي يفتخر به قادته في كل مباراة داخلية يتنافسون فيها على محاصصة المقاعد السلطوية ؟ بل وأين هي الدولة التي يتبارون حول زعامتها ويبرزون الكروت الحمراء والصفراء التي تسجل "أرصدتهم من البطولات في خوض ذلك النضال" ؟ ولماذا أوجعوا رؤوس الناس بالحديث عن رئاسة الدولة الفلسطينية؟
وطالما أن هذا هو التوصيف الدقيق للواقع المخزي، فلماذا تُفرش البسط الحمراء للزعماء والوزراء وهم يخضعون لسيطرة الاحتلال ؟ ولماذا يهتزّ "صولجان الملك" بأيديهم وكأنه قطعة سحرية لا يمكن للناس أن تدرك واقعها الخيالي ؟
وإذا كان الزعماء مجرد أفراد من "شعب" تحت الاحتلال، فلماذا يصدرون الأوامر لقمع ذلك "الشعب" كلما أراد أن يتنفس نسمة عزة وإباء وتمرد على هذا الواقع الذليل ؟ بل ولماذا توجد أجهزة أمنية "لشعب" تحت الاحتلال ؟
وبكل بساطة، فإن هذا يعني أن كل تحرك سياسي رسمي لا يجري على هذه الأرض المحتلة إلا بمباركة الاحتلال اليهودي العسكري، ومن ثم فإن حديثهم الترويجي لانتخابات رئاسية وتشريعية (وحتى بلدية) ما هو إلا لتمرير لما يريده الاحتلال وراعي الاحتلال، لإفراز طبقة مخولة بتشريع هذا الاحتلال من خلال تمرير وهم الدولة.
وإن أوهام الدولة الفلسطينية تتبدد لدى زعمائها عند كل حركة عدوانية جديدة من قادة دولة الاحتلال اليهودي، وبينما يصفعهم نتنياهو كل يوم في قراراته العسكرية التي تطال القادة أنفسهم، كما صفعهم أولمرت من قبل وهو يضرب غزة بيسراه ويصافحهم باليد الأخرى، ومع ذلك يعود حديثهم من جديد عن دولة وسلطان وعسكر.
هم يؤكدون أن "كل السلطة الفلسطينية لا علاقة لها بالسياسة"، كما قال عزام الأحمد في لقائه على فضائية القدس يوم 12/4/2010، عندما وصف رئيس حكومة رام الله بأنه "جاء من مدرسة البنك الدولي"، وأنه "غير مخول أصلا" بالشأن السياسي.
إذاً، أليست النتيجة الطبيعية لكلام الأحمد أن رئيس "الحكومة الفلسطينية" هو مجرد مدير لمشروع السلطة الفلسطينية كمؤسسة خدماتية تقدم خدمات للناس من خلال تجنيد الأموال (fund raising) من الدول المانحة، كما يفعل أرباب المنظمات غير الحكومية في استجداء الأموال من المانحين !
إن هذا الإقرار من "قادة المشروع الوطني" يؤكد انطباق الوصف الذي نطلقه على هذه السلطة بأنها "بلدية كبيرة"، وخصوصا أنهم ينفون أي دور سياسي لرئيس تلك "البلدية"، ويؤكدون أنهم تحت الاحتلال.
وكنتيجة طبيعة لهذه التوصيفات، كان حتميا على السلطة الفلسطينية أن تعتبر أن رد الفعل على القرار اليهودي بترحيل الآلاف هو التوجه للقانون الدولي وللمحافل الدولية، كما تفعل الشعوب الراضخة للاحتلال عندما تستجدي الحق استجداء.
إن تنقل الناس للسكن من الضفة الغربية إلى غزة لم يكن ليكون قضية سياسية لو كان هنالك كيان سياسي حقيقي، فالناس تتنقل للعيش في دولها حيثما شاءت، ولا فرق بين رام الله وغزة كأرض فلسطينية واحدة، ولكن إجبار الاحتلال للناس على ترك عائلاتهم وحرمانهم من حق الإقامة حيث يريدون خلق قضية للناس وهددت حياتهم. ولم تستطع السلطة الفلسطينية مسلوبة الإرادة من حفظ الحق لأي مواطن يعيش ضمن "رحابها" بالبقاء في بيته، فهي لم تستطع أن تحفظ الحق لقادتها (الذين يقودهم أبسط جندي يهودي إلى سجنه) فما بالك بالناس بالبسطاء! ولن تستطيع يوما أن تقرر فوق الأرض ما لا يرضاه الاحتلال.
فلو كانت السلطة الفلسطينية هي كيان فعلي، وصاحبة قرار سياسي، لمنعت تنفيذ قرارات الاحتلال، ولمكّنت الناس من العيش حيثما يريدون، ولكنها بدل من حمايتهم، تتباكى في المحافل الدولية ويصرخ قادتها على الفضائيات، كما يفعل الناس البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة !
وبعد كل جولة إحباط لهؤلاء القادة، يعود "الساحر" أوباما لغزله الناعم، فيعدهم ويمنيهم بمبادرة سلام جديدة كما مناهم بوش برؤيته لحل الدولتين. وهي وعود تتجدد بينما لا تخرج إطلاقا عن الأسس التي وضعتها أمريكا منتصف القرن الماضي، والقائمة على إنشاء كيان هزيل (تحت الإنعاش - ولتخفيف الوصف يقال عنه أنه قابل للحياة) يسمى دولة فلسطينية. وقد تعاقب رؤساء أمريكا وتوالت محاولاتهم لإخراج تلك "الدويلة" من "رحم" نتياهو وشارون وشامير، ولكنهم يستنتجون كل مرة أن الحمل كاذب، والوعد لا يتحقق، ويتناسى قادة المشروع الوطني أنه "لا يفلح الساحر حيث أتى".
هب أن أوباما تفرغ مستقبلا من الملفات الأمريكية الحرجة التي توجع رأسه وتقض مضجعه، وقرر أن يجري عملية جراحية لإخراج ذلك المولود المشوّه من رحم الاحتلال، ومن خلال الضغط على بطن الاحتلال، فما هي صورة تلك الدويلة على الأرض: أين هي مواردها التي ستعتاش منها؟ أم أنه سيتحتم عليها أن تظل "بلدية كبيرة" تدار بالتمويل الأجنبي ومن قبل رئيس وزراء يكون كمدير علاقات عامة في مؤسسة مدنية لتجنيد الأموال ؟
أما آن أن تدق ساعة الحق لتوقظ اللاهثين خلف سراب أمريكا ! وليواجهوا الحقيقة المرة أنهم دحرجوا هذه القضية في مزالق وحفر سالت فيها الدماء في معركة على "الوهم" بينما بقي الاحتلال هو صاحب الكلمة الفصل على أرض فلسطين، وظلّت الوعود الباطلة تتجدد !