أمريكا كانت ولا زالت تبذل في القضية الفلسطينية الكثير من الجهد والمال والوقت ومن ماء الوجه أحيانا كما حدث مؤخراً لنائب رئيسها من قبل يهود، وهي أيضاً صبورة وتقوم بذلك على مدى أعوام طويلة بلا كلل ولا ملل، غير أنّ السؤال المنطقي جداً والذي يطرح نفسه وتتحتم الإجابة عليه، هو ما مصلحة الأمريكان في كل ذلك؟
ولماذا يقومون بذلك وهم من عُرف عنهم أنّ حياتهم برمتها تقوم على حسابات الربح والخسارة المادية ولا مكان فيها لغير ذلك وخاصة صناع السياسات منهم؟ بل إنّهم لا يطعمون في بلدانهم فقيراً إلا بعد حساب أثر ذلك في نسب النمو، وأثر ذلك على زيادة الطلب على سلع المصانع التي يملكها الأغنياء.
فما الذي يدفعهم لبذل كل ذلك المال من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين "ليُمنح" للسلطة الفلسطينية أو لينفق على تدريب قوات أمنها؟ ثم إنّهم كذلك يحسبون الوقت بالدقيقة، فهم المبدعون في عمليات إدارة الوقت واستثماره، فلماذا إذاً تلك الأشهر الطويلة من وقت ميتشل وفريقه، وقبلها السنوات الطوال ممن سبقوه بالعمل على ما يُسمى عملية السلام؟
هذه أسئلة يحاول مرتزقة السياسة في بلادنا من رجالات السلطة والأنظمة العربية وأجهزة إعلامها تجنبها وصرف الأنظار عنها، بل وتذويبها من خلال الكلام عن ميزات "الاستقرار" الذي يحققه السلام، حتى لا يلتفت لتلك الأسئلة أحد، وفيما يتكلم الكل عن المصالح من عمليات التفاوض والتسويات، لا تكاد مصالح الدولة الأولى أي أمريكا الراعية لكل ذلك تُذكر وكأنّها غير مستفيدة . فما هي إذاً مصلحة أمريكا؟
إنّ الأمر الجوهري والأساس في تفاصيل كل ما يجري فيما يسمونه بملف الشرق الأوسط هو مصلحة أمريكا، وهو ما يفسر احتضانها الشديد لذلك الملف، والقضايا الغلافية أي التي تُغلف بها المصلحة الأمريكية من مثل ما يطلقون عليه حقوق الشعب الفلسطيني هي توابع هامشيه، ومثلما أنّه لا يوجد عاقل إلا ويدرك أنّ أمريكا لا تتحرك إلا مدفوعة بمصالحها، سواء مصالحها المباشرة أو مصالحها عبر ربيبتها "إسرائيل"، فإنّه لا يوجد مسلم كذلك إلا وفي وجدانه أنّ تلك المصالح الأمريكية هي على النقيض من مصالح الأمة الإسلامية .
الجنرال بيترايوس وفي كلمة له أمام لجنه استماع لمجلس الشيوخ تكلم عن بعض تلك المصالح الأمريكية من وراء رعاية أمريكا لـ"عمليه السلام" وذلك من خلال الكلام عن الأضرار التي قد تلحق بتلك المصالح في حال تعثر تلك العملية. بيترايوس قال إنّ التوترات بين "إسرائيل" والفلسطينيين تمثل تحديات واضحة لقدرات أمريكا على دفع مصالحها، وأضاف في إفادة أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ أنّ "النزاع يزيد من المشاعر المعادية للولايات المتحدة بسبب فكرة محاباة الولايات المتحدة لإسرائيل"، وأشار كذلك إلى أنّ "الغضب العربي بسبب القضية الفلسطينية يحد من قوة وعمق الشراكات الأميركية مع الحكومات والشعوب في المنطقة ويضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي"، وقد سبقه نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن عندما ذكر في جامعة تل أبيب أنّ وجود أمريكا من خلال 200 ألف جندي أمريكي في 3 بلدان إسلامية والذي صار مهدداً وكذلك سلامتهم هو سبب كاف لدى أمريكا للحرص على تسويه سلمية .
ولترجمة كلام بايدن وبيترايوس بكلام أوضح دلالة نقول إنّ حديثهم عن مصلحة أمريكا بهذه الطريقة معناه أنّ التزام أمريكا، وجهدها المحموم فيما يسمونه بعملية السلام ما هو إلا التزام أمريكا لتحقيق مصالحها. وما رعايتها للمفاوضات ورعايتها للسلطة إلا عملية عبور قذرة عبر القضية الفلسطينية من قبل الأمريكان إلى جسد الأمة لإكمال تمزيقه وجعل وجود هذا العدو الكافر مستمرءاً عند المسلمين ومقبولاً.
إنّ حل القضية الفلسطينية صار يشبه تماما حل ما كان يعرف في أوروبا بـ"المسألة اليهودية"، فالمسألة اليهودية حلت من خلال إنشاء "إسرائيل" لتكون رأس جسر لمصالح الغرب في المنطقة، وها هم الآن يعملون على حل القضية الفلسطينية بإنشاء كيان هو الدولة الفلسطينية ليكون هو الآخر رأس جسر، ولكن هذه المرة للمصالح الأمريكية بالذات في العالم الإسلامي، فالشبه إذاً كبير، ولعله ليس من قبيل الصدفة كذلك ما يتكلم عنه قادة يهود أحيانا من وصف رئيس وزراء السلطة الفلسطينية بأنّه "بن غوريون الفلسطيني" فالسياق يكاد يكون متماثلاً، رغم تناقض الأطراف، وما ذلك التماثل إلا لأنّ خيوط التحكم لا زالت في الأيدي ذاتها، ومن أجل المصالح ذاتها أي في الأيدي الغربية وليست في أيدي أبناء الأمة.
فالقضية إذاً أكبر تعقيداً وأكثر عمقاً من نظرة ساذجة لثمن بخس يحاولون الترويج له بشيء من دويلة وقليل من اقتصاد، فبيترايوس ومثله بايدن يتكلمان عن أنّ غياب التسويات يهدد مصالح أمريكا وسلامة وجودها العسكري، ويتكلمان أيضا عن أنّه يزيد من مشاعر الكره في العالم الإسلامي للأمريكان ويقوض شراكة أمريكا مع الحكومات والشعوب -ويقصد سيطرتها- ويزعزع استقرار الأنظمة المعتدلة – ويقصد هنا الأنظمة العميلة- .
إنّ المسلمين وعلى امتداد العالم الإسلامي كله لا يوجد أحدٌ منهم إلا وهو يريد أن تتحرر البلاد الإسلامية من الأمريكان وأن يقضى على وجودهم السياسي والعسكري، والشعوب الإسلامية تدعو الله صباح مساء سقوط تلك الأنظمة التابعة العميلة التي يسمونها بـ"المعتدلة" وزوالها، بل وينتظرون ذلك اليوم على أحر من الجمر.
إنّ قضية فلسطين وعلى مدى أعوام طويلة ساهمت في فضح الأنظمة وساهمت كذلك في ترسيخ الوعي عند أبناء الأمة الإسلامية على فساد أنظمتهم وتبعيتها وتخاذل قياداتهم، وهي كذلك أشعلت في نفوسهم إسلامهم بعد أن أسقطت الوطنيات والقوميات، وهي أيضا ساهمت في تنبههم إلى أنّهم أمة واحدة كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد.
هذا بوضوح ما أدركه بايدن وبيترايوس من علاقة فلسطين بالأمة الإسلامية، وأثر قضيتها على أبناء المسلمين كافة، وهو أنّ الظلم الواقع على فلسطين يهدد جنوده في أفغانستان، وهذا هو أيضا ما يريد الأمريكان إجهاضه من خلال تسويات السلام ومن خلال تسخير فئات فقدت ارتباطها بأمتها منذ زمن بعيد.
إنّ الأمريكان لطالما كانوا ينشطون بعد كل حرب يشنونها في البلاد الإسلامية لتفعيل ملف قضية فلسطين وكأنّهم يريدون شراء سكوت المسلمين عما ترتكبه أمريكا، بفتح ملفات مفاوضات الفلسطينيين مع اليهود، ولكن السؤال هو هل يصح أن يرضى المسلمون وخاصة نحن أهل فلسطين بذلك؟ أي هل نرضى بأنّ تقوم أمريكا بتصفية قضية فلسطين لصالح كيان يهود وفي نفس الوقت تسوق نفسها على أنها المنقذ لأهل فلسطين، وتجعل "إنجازاتها" ثمناً لبقاء سيطرتها على الأمة؟ وبأن يكون "استقرار الضفة الغربية" ثمناً لبقاء سيف الأمريكان الصليبيين يعمل الذبح في إخواننا في العراق وأفغانستان؟ أو أن نرضى بأن نخدع وتخدع الأمة كاملة بـ "دويلة سلام فياض" التي يعمل الأمريكان على أن يشتروا بها القبول لدى المسلمين؟
لعل إحساسات بيتراويس قد تكون مطابقة للواقع، أما أمنياته فخابت، وبكل الأحوال فإنّه نطقها صريحة للمسلمين - مع أنّه لا يوجه الخطاب لهم - إنّكم أمة واحدة تنبض بالحياة وتوشك على النهوض وخلع رويبضاتها ولذلك نخشاكم.