أعلنت ثلاث دول أوروبية هي إسبانيا والنرويج وإيرلندا الاعتراف بـ"الدولة الفلسطينية"، وقد كان البارز في هذا الاعتراف هو أنه جاء من دول أوروبية، أما عدا ذلك فهو لا يضيف الجديد، إذ إنه وباستثناء أمريكا وبعض دول أوروبا وبعض البلدان الأخرى، فإن معظم دول العالم تعترف بـ"الدولة الفلسطينية"، فيما أعلنت بعض الدول الأخرى، ومنها دول أوروبية، عن نيتها الاعتراف في وقت لاحق، وقد سبق وأن صوتت الجمعية العامة في الأمم المتحدة في العام 2012 على أن يكون لفلسطين صفة الدولة المراقب في الأمم المتحدة دون العضوية.
أما ما يترتب على هذا الاعتراف، فإنه من الناحية العملية لا يترتب عليه الكثير، بل يكاد لا يترتب عليه شيء، خاصة وأن الكثير من الدول تعترف بما يسمى بالدولة الفلسطينية منذ سنوات طويلة، ومن ناحية أخرى فإن اعتراف هذه الدول هو اعتراف عام أقرب إلى الاعتراف بالفكرة من المضمون، حيث لا تأخذ هذه الاعترافات بالحسبان الشكل النهائي لتلك الدولة أو حدودها أو معرفاتها، وكذلك ليس في تلك الاعترافات ما يقود إلى أية ناحية عملية، إذ إن آثار تلك الاعترافات معلقة بوجود تلك الدولة في حال تهيأت ظروفها، دون تدخل في تلك الظروف، وبالتالي فإن مسألة الاعتراف بـ"الدولة الفلسطينية" هي أشبه بالقرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
على أن هذه الاعترافات من الدول بـ"الدولة الفلسطينية" وإن كان لا يترتب عليها الكثير عمليا، ولكنها من ناحية أخرى تأكيد للمشروع الأمريكي فيما يعرف بحل الدولتين، وهي مما يزيده زخما في حال باشرت أمريكا بتنفيذه، إذ إن أمريكا هي التي تتحكم بزمام الأمور في تفاصيل هذا المشروع وإعداده وتنفيذه، وكذلك في كيفية إخراجه بصورته النهائية إن استطاعت، وقد قامت في شهر نيسان/أبريل برفض مشروع قرار في مجلس الأمن يهدف إلى جعل فلسطين دولة كاملة العضوية، حيث تريد أمريكا أن تكون الدولة الفلسطينية إفرازا لتسوية سياسية مع الكيان.
وكذلك فإن هذه الاعترافات وإن كانت أقرب إلى كونها معنوية دون محتوى عملي، إلا أنها تصب في خانة الضغوط على الكيان، ومن باب أن تبقى الفكرة حية في الاهتمام العالمي، في ظل سعي الكيان إلى شطب تلك الفكرة أصلا، سواء بإجراءاته على الأرض أو بسياسته وبرامج حكوماته الرافضة لـ"الدولة الفلسطينية"، وكذلك في ظل سعي حكومة الكيان إلى تقويض السلطة الفلسطينية، تلك السلطة التي ضخ فيها الأوروبيون مالا وجهودا، بل وكانوا هم حاضنة اتفاق أوسلو الذي نشأت عنه السلطة، خاصة وأن أوروبا لا تملك حاليا مشروعا منفصلا عن المشروع الأمريكي المتمثل بحل الدولتين، وقد صرح رئيس وزراء النرويج يوناس غار ستوره "أن بلاده ستعترف بـفلسطين كدولة مستقلة اعتبارا من 28 أيار/مايو الجاري، وأضاف ستور أن الهدف من الاعتراف هو إقامة دولة فلسطينية متماسكة سياسيا أساسها السلطة الفلسطينية، مشيرا إلى أن حل الدولتين من مصلحة (إسرائيل)، وأكد أنه يتعين الإبقاء على البديل الوحيد الذي يوفر حلا سياسيا لـ(الإسرائيليين) والفلسطينيين على حد سواء، وهو دولتان تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمن".
أما موقف الكيان، فقد سارع قادته إلى إجراءات مقابلة عقب قرارات الدول الثلاث، ومنها إلغاء قانون ما يعرف "بفك الارتباط" مما يمكن "المستوطنين" من إعادة نشاطاتهم الاستيطانية في بؤر استيطانية متروكة، وكذلك الإعلان عن قطع العلاقة مع البنوك الفلسطينية من خلال عدم تمديد الإعفاءات لبنوك الكيان التي تتعامل معها، إضافة إلى ما يمارسه الكيان من حجز لأموال الضرائب والخنق الاقتصادي للسلطة، حيث باتت سياسة الكيان هي الحيلولة دون كل ما من شأنه أن يؤدي بالسلطة إلى أن تكبر لدرجة التحول إلى مشروع "دولة"، مع حرمانها من أي مظهر "سيادي" يمكن أن يجعل منها نواة لدولة ولو كانت دويلة ممسوخة، وقد بات هذا التوجه هو توجه قيادات الكيان وحكوماته، عوضا عن جمهورهم وقواعدهم "المتطرفة" الآخذة في الاتساع.
إن كيان يهود كيان وقح ومستفز، وقد أدت به وقاحته وإجرامه إلى تلقيه للضربات في مكانته الدبلوماسية والسياسية واهتزازه عالميا، ومن ذلك اعترافات الدول بـ"الدولة الفلسطينية"، وتحريك القضايا في المحكمة الجنائية وفي محكمة العدل الدولية، إضافة إلى ما يجري من تغير النظرة في الرأي العام على مستوى العالم ونخبه.
إلا أن ما ينبغي إدراكه أن اعترافات الدول الغربية بما يسمى بـ"الدولة الفلسطينية"، حتى وإن كانت خلافا لسياسة الكيان ورغبته، فإن هذا لا يعني أنها إنجاز لأهل فلسطين كما يجري تصويرها، بل هي في جوهرها عين خطة أمريكا، وهي مشروع غربي لأهله بناء على مصالحهم، والتي منها حفظ كيان يهود وبقاؤه وأمنه، وإن كان هذا المشروع مغلفا بالكلام عن حقوق أهل فلسطين، كما أنه لا يعني في حقيقته إلا إضافة دويلة ممسوخة للمشهد البائس، تابعة كشقيقاتها في الجوار، ليتم من خلالها تصفية قضية الأرض المباركة والتنازل عنها، خاصة وأن مشروع "الدولة الفلسطينية" يجعل من وجود الكيان على معظم أرض فلسطين هو الثابت والمنطلق.
لقد عاشت السلطة الفلسطينية وهي تقتات على مثل هذه الاعترافات والدبلوماسيات طوال حياتها، وتصويرها أنها إنجازات، تساندها في ذلك الأنظمة المتخاذلة وحكامها العملاء لتغطية قصورهم وخيانتهم، وهم بتضخيم مثل هذه الأمور إنما يطعمون الناس الوهم ويسعون بهم إلى السراب، فالدول لا تنشأ بالاعترافات، والبلاد لا تُسترد بالتسول، ولا يكون الحال كذلك إلا عندما توضع القضايا في أيدي الرويبضات، ممن خانوا الأمانة وامتهنوا العمالة. وقضية فلسطين هي قضية الأمة الإسلامية، وحق الأمة فيها هو حق بأرضها كاملة لا بجزء منها فقط، واسترداد الحق هو بناء على ما يقرره الإسلام، والإجراء الواجب لذلك هو ما يقرره الشرع من الجهاد والإعداد حتى التحرير الكامل، والأمة الإسلامية تمتلك القدرة، ولا ينقصها إلا تنصيب قيادة مخلصة بعد إزاحة رويبضاتها والقذف بهم بعيدا.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر
المصدر: جريدة الراية