بعد عدة أشهر من المفاوضات حول الهدن، والتي كانت تتم عبر الوسيطين المصري والقطري، أبلغت حركة حماس الوسطاء بأنها قبلت بالورقة المقدمة، وقد سارع نتنياهو إلى رفض الصفقة، وإلى الإعلان عن النية في استئناف العمليات العسكرية في رفح، وفي الوقت ذاته تفويض وفد المفاوضات بالاستمرار في حال إحراز تقدم، ثم ما لبثت قوات كيان يهود أن طالبت سكان بعض مناطق شرقي رفح بالنزوح من أماكنهم، ودخلت قواتها عبر الطريق الموازي للحدود المصرية حيث تم الاستيلاء على معبر رفح، لتكون بذلك قد أطبقت الحصار من خلال إحكام القبضة على معابر القطاع، وفي اليومين الأخيرين، وبالإضافة إلى إخلاء المنطقة الشرقية من رفح، توغلت الدبابات لتفصل شرقي رفح عن غربيها، ولتحاصر رفح من الشمال في شارع صلاح الدين، بل وألقيت منشورات تطالب بإخلاء مناطق في عمق المدينة، كما تكثفت عمليات القصف المدفعي في وسطها.
وهكذا، وبدون عنوان عريض يثير العالم بما يسمى بـ"عملية اجتياح رفح" تجري عمليات الكيان العسكرية في رفح، وبأسلوب التجزئة والسير على مراحل، ودون إثارة كبيرة لحفيظة الأمريكان، حيث نقلت أكسيوس عن مصادر "بأن هذه العمليات وهذا التوسع محدود بالخطوط التي وضعها بايدن"، خاصة وأن أمريكا إنما كانت معارضتها لعملية اجتياح رفح معارضة للقيام بها قبل تأمين السكان، ما قد ينتج عنه ضحايا وكارثة إنسانية محرجة، وليست معارضة مطلقة، وموقف أمريكا في وقف صفقة التسلح مؤقتا للكيان إنما هو ضغط لطابع الهجوم على رفح حتى لا ينفلت، وبالتالي فإن موقفها فيه ذر للرماد في العيون، فالعمليات الأخيرة التي يقوم بها جيش الكيان إن لم تكن بتفاهم مع الإدارة الأمريكية، فهي بتفهّم منها، تحت عنوان المحدودية وعدم التوسع، وإلا فكلهم في الإجرام سواء.
ومما يشير إلى أن عمليات التوغل الأخيرة في رفح هي من ضمن المتفق عليه، أو المسكوت عنه، هو الموقف المصري المتواطئ، فقد كان النظام المصري يرفض سابقا اقتراب قوات كيان يهود من الحدود المصرية واحتلال محور فيلادلفيا، وهو رفض يتسق مع الموقف الأمريكي، برفض تهجير السكان الموجودين في رفح إلى الأراضي المصرية، ولكن موقفها البارد تجاه اقتراب قوات الكيان من الحدود وسيطرتها على معبر رفح مؤخرا، بل وتصريح القنصل المصري السابق في تل أبيب، حسب ما نقلت عنه الشرق الأوسط قوله إن "تنفيذ عمليات اجتياح محدودة من قبل تل أبيب في رفح الفلسطينية بمثابة استجابة (إسرائيلية) واضحة للمخاوف المصرية، لا سيما مع تحرك الفلسطينيين نحو خان يونس ووسط غزة وليس تجاه سيناء المصرية". لافتا في السياق ذاته "أن تكرار اللقاءات والتنسيقات الأمنية والعسكرية بين المسؤولين (الإسرائيليين) ونظرائهم المصريين، يعكس الالتزام (الإسرائيلي) بجميع التعهدات الموقعة مع مصر"، ولافتاً إلى أنه "حتى في حال سيطرة (إسرائيل) على (محور فيلادلفيا) بشكل كامل، فإن الوضع سيظل مستقراً"، ما يشي بأن ما يجري في رفح هو من ضمن المسكوت عنه.
إن مفاوضات الهدن ولعدة أشهر كانت هي العنوان البارز الذي يوحي بالسعي إلى اتفاقات، بينما لم يتوقف القتل والقصف يوما واحدا خلال تلك المدة، حيث كان يتخذها كيان يهود، وهو الذي يحرص على إفشالها وتعثرها، غطاء لاستمرار إجرامه وحربه، وهو يعمد من خلال رفضه الأخير لصفقة الهدنة التي وافقت عليها حركة حماس، ومن خلال عملياته في رفح إلى إطالة أمد الحرب والتعلق بأهداف معقدة يتعذر تحقيقها، أو على الأقل تشكيل مزيد من الضغوط والحصول على تنازلات إضافية في المفاوضات التي تدفع بها إدارة بايدن، من خلال المزيد من الحصار وإطباق الخناق لتكون أقرب إلى مفاوضات حول الاستسلام أكثر مما هي حول الرهائن.
إن الإدارة الأمريكية، كما هو كيان يهود، يسعون من كل ما يجري على الأرض، ومنذ أشهر عدة إلى إعداد بنية جديدة للقطاع، بحيث يتحكمون في إدارة حياة السكان من خلال "هيكل إداري جديد"، كما يسعى كيان يهود إلى تحويل واقع القطاع إلى واقع أمني مختلف تماما عما كان عليه بحيث يتمكن فيه من السيطرة الدائمة، وكل ذلك يقتضي التخلص من حكم حركة حماس للقطاع، مع فارق بينهما أن الأمريكان لا يريدون ذلك من خلال مجزرة كبيرة لا يحتملها الرأي العام، وأن نتنياهو يريد نصرا معقدا، وإلغاء لفكرة الدولة الفلسطينية التي تريد أمريكا أن تبقيها حية.
على أن مما يحد من اندفاع الكيان في تنفيذ خططه ويشكل إعاقة لها، بالرغم مما يقوم به من جرائم وإبادة، هو ملف الرهائن لدى المجاهدين، والذي يشكل ورقة ضاغطة، لا يمكن تغافلها سياسيا، مع أن نتنياهو يقوم بذلك عمليا، وحركة حماس تدرك ذلك، كما تدرك المخططات التي تستهدف السيطرة على القطاع، ولذلك كانت تشترط انسحاب قوات الكيان من القطاع، كما كانت تشترط الوقف النهائي للحرب كمحصلة نهائية، ولقد أحرج ردها بالموافقة على الهدنة نتنياهو، وشكل ضغطا عليه في قضية الرهائن، ولكن ليس إلى الدرجة التي يتوقف عندها، ولهذا قفز إلى الأمام بتوسيع العمليات في رفح.
وأما الأمر الآخر الذي يعثر خطط كيان العدو ويحول بينه وبين نصره الموهوم، فهو استمرار أنفاس "المقاومة" وعملياتها المكلفة ضد الكيان وفي حال توغله، حيث يقوم الكيان الآن بمهاجمة جباليا وحي الزيتون، وحيث عمليات المجاهدين قد عادت لتنشط في شمال القطاع وعلى ما يسمى بمحور نتساريم، ما يشير إلى طبيعة الاستنزاف التي يمكن أن تتصف بها المعارك الجارية.
إن الفرصة لا زالت موجودة أمام الأمة وقواها وجيوشها في أن تدرك أبطالها، وأن تتدارك رفح بعد أن خذلت غزة من قبل، ولو بخلع حكامها، وهم الجبناء الذين ليس لهم موقف إلا موقف سيدتهم أمريكا، خاصة وأن الكيان بجيشه المنهك، ووضعه الداخلي المتهالك المفكك، لم يستطع الحسم حتى هذه اللحظة حسما تاما، وهو بعيد عن ذلك إلا بالكثير من الدمار والدماء. ولو كان في الحكام ذرة من الرجولة، ولم يكونوا غارقين في العمالة، لجعلوا من بطولات مجاهدي غزة نصرا مبينا، ولجعلوها فرصة للتحرير، ولكنهم أبوا إلا الخيانة، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر
المصدر: جريدة الراية