يجري الحديث منذ أكثر من ثلاثة أسابيع عن احتمال إصدار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء يهود بنيامين نتنياهو، ووزير الجيش يوآف غالانت، ورئيس أركانه هيرتسي هاليفي، وذلك على خلفية حرب كيان يهود على قطاع غزة، ويتم الحديث عن نقاش جدي حول هذه المخاوف في مكتب نتنياهو بحضور النخبة السياسية والقانونية العليا في كيان يهود، بل ويجري الحديث عن أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يجري اتصالات دولية مكثفة في محاولة لمنع إصدار مذكرات الاعتقال، حيث أكدت القناة العبرية أن نتنياهو طلب من وزيري خارجية بريطانيا وألمانيا خلال زيارتهما كيان يهود التدخل لمنع إصدار أوامر اعتقال من المحكمة الجنائية، كما طلب نتنياهو من بايدن التدخل لمنع المحكمة الجنائية الدولية من إصدار أوامر الاعتقال.
وأكثر من ذلك، فقد نقل موقع أكسيوس الإخباري أن حكومة نتنياهو حذرت إدارة بايدن من أنها ستحمّل السلطة الفلسطينية المسؤولية إذا أصدرت الجنائية الدولية مذكرات اعتقال، وستتخذ خطوات انتقامية قوية قد تؤدي إلى انهيار السلطة، ومن بين الإجراءات المحتملة تجميد تحويل عائدات الضرائب التي يجمعها كيان يهود لصالح السلطة الفلسطينية. وبدون هذه الأموال، ستكون السلطة الفلسطينية مفلسة.
من جانب أمريكا، فقد أكد بايدن خلال اتصال هاتفي أن الولايات المتحدة تعارض تحقيق المحكمة الجنائية الدولية ضد كيان يهود. كما أشار مسؤولان أمريكيان إلى أن إدارة بايدن أبلغت مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية على انفراد أن أوامر الاعتقال ضد قادة كيان يهود ستكون خطأ وأن الولايات المتحدة لا تدعم هذا الإجراء. وقال مسؤول أمريكي: "إننا نشجع المحكمة الجنائية الدولية بهدوء على عدم القيام بذلك. فذلك سوف يفجر كل شيء. وسوف تنتقم (إسرائيل) من السلطة الفلسطينية".
وهنا تبرز العديد من التساؤلات، وأهمها ما هو أثر تلك المذكرات وتأثيرها على كيان يهود أو قادته، وما هو موقف أمريكا الحقيقي من هذه الخطوة، وكيف ستؤثر تلك المذكرات على مجرى الحرب الوحشية على قطاع غزة؟
بداية إن التخوفات التي يبديها قادة يهود من قرارات كتلك إنما هي تخوفات حقيقية ولكنها معنوية بالمقام الأول وليست حقيقية ملموسة، فرئيس الكيان إسحاق هرتسوغ قال إن "احتمال توجيه المحكمة الجنائية الدولية اتهامات إلى قادة (إسرائيليين) على خلفية الحرب في غزة يعد خطرا على الديمقراطيات"، وفق تعبيره، داعيا حلفاء الكيان إلى معارضة ذلك.
أما نتنياهو فقد قلل في تصريحات له من شأن أي قرارات قد تصدر عن محكمة العدل الدولية، وقال إن "قرارات المحكمة لن تؤثر على تصرفات (إسرائيل) بشأن غزة". كما وصف في بيان على منصة إكس، احتمال صدور مذكرات اعتقال بأنها "سابقة خطيرة". وقال: "لن نقبل أي محاولة من جانب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لتقويض حق (إسرائيل) في الدفاع عن نفسها".
ووفق نيويورك تايمز، من المحتمل أن يُنظَر إلى أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة في معظم أنحاء العالم على أنها "توبيخ أخلاقي مهين"، وقال مسؤولون من كيان يهود وأجانب إنهم لا يعرفون المرحلة التي وصلت إليها العملية، وإن أي أوامر اعتقال ستتطلب موافقة لجنة القضاة ولن تؤدي بالضرورة إلى محاكمة أو حتى إلى اعتقال فوري للجناة. وليس لدى المحكمة قوة شرطة خاصة بها. وبدلاً من ذلك، تعتمد على أعضائها، البالغ عددهم 124، لاعتقال الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في مذكرات الاعتقال، ولا يمكنها محاكمة المتهمين غيابياً.
وهكذا فمن الواضح أن مذكرات الاعتقال إن صدرت فإنها بمثابة خطوة معنوية بالمقام الأول الغاية منها إزعاج نتنياهو والضغط عليه لكبح جماحه عن التطلع لما هو أكبر من حجمه، ومن الواضح أيضا أن هذه الدعوة والخطوة تسارعت في الأسابيع الأخيرة وهي نفسها الفترة التي تصاعدت فيها تحركات الإدارة الأمريكية للضغط باتجاه إبرام صفقة تهدئة وتبادل أسرى، وازدياد حجم المظاهرات الداخلية لدى كيان يهود المطالبة بصفقة تبادل فورية.
فالمتتبع لتصريحات الإدارة الأمريكية ومبعوثيها مؤخرا يلمس سعيا قويا من جانبها لإبرام صفقة تبادل أسرى وهدنة مؤقتة، في حين يشدد نتنياهو ومجلس حربه على ضرورة اجتياح رفح للقضاء على حركة حماس وتحقيق النصر الكاسح على حد تعبيرهم، حتى وصف كثير من المراقبين تصريحات نتنياهو بأنها واضحة من أجل إفشال الصفقة والذهاب نحو الاجتياح.
فوجود ضغوطات على نتنياهو واليمين المتطرف، من قبيل مذكرات الاعتقال وتنامي المظاهرات الداخلية، مع تدخل أقوى في جهود الوساطة من قطر ومصر ومدير الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، الذي وصل إلى مصر، الجمعة، للمشاركة في محادثات صفقة الأسرى بين كيان يهود والفصائل الفلسطينية، من شأن ذلك أن يسهل على أمريكا تحقيق خطتها الحالية في إنجاح صفقة التبادل، لا سيما أن هناك أمراً تجدر ملاحظته في مذكرات الاعتقال، وهو أن المذكرات إنما هي ذات صفة فردية، فهي تمس أشخاصا بعينهم لا كيانهم، فهي تختلف عن قرار محكمة العدل الذي كان حبرا على ورق بالطبع، فذلك كان متعلقاً بسلوك الكيان نفسه، والقرار موجه إلى الكيان، أما مذكرات الاعتقال فهي إن صدرت ستؤثر على الأشخاص الذين ستصدر بحقهم، فهي بمثابة رسالة وتحذير إلى شخص نتنياهو ومن قد يسايره في مخططاته التي قد تخرج عن السيطرة.
أما على صعيد الحرب وكيان يهود، فكيان يهود ما زال مقدسا لدى أمريكا والغرب، وهم حريصون على بقائه وقوته أكثر من حرص يهود أنفسهم، ولقد رأينا كيف أن الديمقراطية تتهاوى في الجامعات الأمريكية أمام هذه الغاية، فهم على استعداد للدوس على كل الشعارات والقيم والأخلاق والحريات المزعومة إذا ما تعلق الأمر بالمحافظة على بقاء وقوة كيان يهود، فكما أن الدعوة إلى الإسلام تُعد (إرهاباً) لدى الغرب، فإن الدعوة إلى وقف الحرب معاداة للسامية ويجب أن تتوقف ويحاسب من يقوم بها!!
فالغرب وأمريكا وإن اختلفوا على أشخاص وتصرفات بعض قادة يهود، ولكنهم متفقون مجمعون على قتل أهل غزة وتدميرها، وضمان أمن ومصالح كيان يهود، ولذلك فإن الحرب مستمرة رغم كل الوحشية والمجازر منذ سبعة أشهر، بإمداد قوي ومباشر من أمريكا ودول الغرب؛ حيث أرسلت أمريكا وحدها 350 طائرة شحن و50 سفينة محملة بالذخيرة إلى كيان يهود منذ بداية الحرب على غزة. ويواصل كيان يهود هذه الحرب رغم صدور قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار فورا، وكذلك رغم أن محكمة العدل الدولية طالبته باتخاذ تدابير فورية لمنع وقوع أعمال "إبادة جماعية" وتحسين الوضع الإنساني في غزة. فلا يوجد ما يوقف هذه الحرب الوحشية إلا تحقيق أمريكا ويهود غاياتهم الاستعمارية في غزة وفلسطين طالما أنهم يرون أنهم قادرون على تحقيق ذلك، في ظل صمت دولي مخز وتآمر مشين من حكام العرب والمسلمين، وتخاذل واضح من القريب والبعيد، ما لم يحدث ما هو خارج الحسبان ويخلط الأوراق.
والسبيل الآخر لإيقاف هذه الحرب الوحشية هو تحرك مخلص من الأمة وجيوشها لنصرة غزة وفلسطين وتحرير المسجد الأقصى، فهم أهل القضية وأصحابها، وعليهم يقع واجب النصرة والتحرير.
بقلم: المهندس باهر صالح
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
المصدر: جريدة الراية