بقلم يوسف طلال
    لقد باتت الدولة الفلسطينية عند أصحابها سواء في أدبيات المشاريع الوطنية أم في طيات المشاريع التفاوضية السياسية الحالية -لا فرق - أملاً يتضاءل وحلماً بعيد المنال. وهذا صار واضحاً من خلال ما أصبح يصدر عن القيادة الرسمية الفلسطينية ( قيادة السلطة ) بخصوص هذا الموضوع وكذلك من خلال نبرة التشاؤم التي صارت تصدر عمن اعتمدت عليهم قيادات السلطة لتحقيق حلمهم في تلك الدولة من أوروبيين وأمريكان . وبعد أن كانت قيادات السلطة لا شغل  لها ولا هم سوى التقاط تصريحات من سياسيين غربيين معروفين أو مغمورين يتكلمون عن الدولة الفلسطينية ولو ببعيد الإشارة، فتتلقف تلك التصريحات لترحب بها وتشكر قائليها وتثمن مواقفهم، حتى لو كانت أقوالهم في سياقات الكلام عن أمن "إسرائيل" ومصالحها، فصارت هذه القيادات الآن بدلاً من ذلك تتلقى موجات التشاؤم عن جدوى المشروع أو إمكاناته .
 أما على أرض الواقع فإنّ الحال ليس أقل تأكيداً، فزعماء اليهود وحكوماتهم وهم الذين يُفترض أنهم شركاء سياسيون لأصحاب مشاريع التسوية في تحقيق ذلك المشروع "العتيد" يبدو أنّهم ليسوا بوارد شيء إلا المماطلة والرفض والنكران وعدم التعاطي،  وإن حصل أن استؤنفت ما تسمى بمفاوضات السلام  فيجب أن تكون كسابقاتها، بدءٌ من الصفر للوصول إلى الصفر، ثم إنّ الاستيطان لم يترك لتلك الدولة الفلسطينية مكاناً، أما الفلسطينيون الرسميون فهم متفرقون بسلطتين إحداهما شديدة الهزال والأخرى تائهة تبحث عن شرعية، وأما الأنظمة العربية فهي مفعول بها وليست فاعلة، عوضاً عن أنّها بأحوال داخلية تجعل القضية الفلسطينية بالنسبة لها عبئاً يتمنون التخلص منه، وأمريكا يبدو أنّ لها أولوياتها وحساباتها وأوضاعها .
 في هذه المقالة لا أنوي تحليل السياسات ولا استشراف القادم منها، وهل يمكن أن تُستأنف المفاوضات أو أنّه يمكن أن تتجدد الصفقات وتلد مولوداً يسمى دولة فلسطينية، أو أنّ الأوضاع هي بذاتها مزيد من الضغوط لتحدث مزيداً من التآكل مما تبقى من القضية الفلسطينية عند أصحاب التسويات بحيث لا يتبقى منها شيء يذكر،  وإنما سأتناول فكرة هذه الدولة بذاتها .
إنّ مشروع ما يسمى بالدولة الفلسطينية قد تردد كثيراً وتم تضخيمه وتسويقه و خاصة لدى بسطاء الناس الذين ينتظرون فرجاً من احتلال بغيض، وذلك على أنّه الحل المنشود والأمل المنتظر الذي تنتهي به مسيرة البؤس الطويلة لأهل فلسطين،  وإنّ مما زاد من تضخيم هذا الأمر بحيث يُهيأ للسامع أنّه شيء يُذكر هو نقاشه وطرحه من قوى كبرى وكذلك رفض اليهود المستمر ومماطلتهم بخصوصه حتى ظن كثير من الناس أنّ هذا الرفض منطقيا - وعلى قاعدة ما يرفضه العدو هو المصلحة بذاتها –فصار ينادي به معظم القوى السياسية الفلسطينية وقسم من الناس البسطاء، مع أنّ الحقيقة التي تنجلي بقليل من التأمل هو أنّ هذا المشروع الذي ملئوا به الدنيا ضجيجا ليس إلا سراباً يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا بانت ملامحه أدرك حينها أنّه ليس حلما فحسب وإنما هو كابوس تمت فيه تصفية القضية، ولعل أدناه بعض الملامح لا كلها :
أولاً : إنّ هذه الدولة لو تم إيجادها فإنّها ستكون ذات ثمن باهظ جدا،  فهي الجسر الذي سوف يتم به اجتياز بل تجاوز كل الخطوط الحمراء والحقوق الحمراء كذلك،  وهي الجسر الذي سيستعمله اليهود ليكون وجودهم في العالم الإسلامي طبيعياً، وسيرافقه الإعلان الرسمي من قبل أنظمة العرب والمسلمين وعلى لسان الفلسطينيين عن إسقاط مطالبتهم لكيان اليهود بأي شيء، كما جاء على لسان رئيس السلطة .
وثانياً : هذه الدولة من حيث صياغتها وصناعتها وتفصيلها هي غربية بحتة بدمغة أمريكية، وبصمات الكل واضحة عليها، وهذا بديهي من خلال النظر للقوى التي تعمل على إخراجها الآن أو تلك القوى التي بأيديها مفاتيح التسويات ومن ضمنها "إسرائيل". وعليه ستكون أهداف تلك الدولة ورؤيتها السياسية والأمنية  تتماشى مع مصالح الدول التي أوجدتها،  وهذا واضح تماما سواء من حيث الكلام عن دولة منزوعة السلاح أو من حيث بناء وتربية أجهزتها الأمنية على يد الجنرال الأمريكي دايتون أو من حيث تشذيب وتهذيب قواها السياسية لتكون حسب معايير الدول الغربية .
وأمر ثالث: هو هل لهذه الدولة – بعيداً عن الشعارات الخادعة- أي مقومات تنبت عليها ؟ الواقع يقول أنها تفتقر لكل المقومات، فلا جغرافياً ولا مقومات اقتصادية  ولا أمنية  ولا أي مما تملكه الدول ولا حتى أشباه الدول . كم ستبقى هذه الدولة تعيش على المنح - مدفوعة الثمن الباهظ مسبقاً وهو التنازل عن معظم فلسطين ليهود- من قبل الدول الاستعمارية الطامعة؟ إنّ المُشاهَد المحسوس أنّ هذه السلطة لا تستطيع تخصيص مبلغ لفتح عيادة في إحدى القرى ولا دفع رواتب موظفيها لشهر واحد، بل إنّ الشوارع المعبدة حديثا ترى فيها أعلام الدول الأجنبية الممولة أكثر مما ترى لافتات المرور، ولم تخلُ من تلك الأعلام الأجنبية حتى رياض الأطفال، ولذلك حتى تلك الناحية الخدماتية التي يمكن أن يُشار إليها كميزة أو قيمة تسوق السلطة نفسها من خلالها، لن تقدمها تلك السلطة، وإنّما  الذي يقدمها فعلا هو من يدفع، أي من يعطي المنح، وبالتالي يصوغ السياسة وغير السياسة . وكيف يمكن كذلك أن يشعر فيها أحد بالأمن وهي منزوعة السلاح ودولة مجرمي يهود تظلل أجزاءها من الرأس إلى القدم، اللهم إلا بالخضوع والخنوع ليهود؟!!
قد يرى واهم أنّ واقع الدولة التي يجرى الكلام عنها قد يختلف عن ما هو مشاهد من واقع السلطة، وهذا إنّما يعطي نفسه أملا يخالفه الواقع، بل يخالفه قول رئيس السلطة نفسها،  فمحمود عباس نفسه قال في أكثر من مناسبة إنّ مؤسسات الدولة جاهزة، أي أنّ ما نراه يكاد يكون هو الدولة ولكن مع إضافة بضعة كيلومترات مربعه وإضافة أضعافها من الألقاب لمسئوليها، وكم هو غريب حقا أمر هذه الجهوزية مقارنة بالواقع المُشاهد المحسوس، ولعله يقصد بالدولة مجموعة البنايات ومجموعة أجهزته الأمنية والتي أجورها وتدريباتها وتوجيهاتها وأسلحتها وحتى هراواتها منح خارجية.
 إنّ الدولة الفلسطينية التي يجري الكلام عنها قلما تُذكر إلا وأضيف إليها أوصاف تقزمها، فقديماً كان يقال دولة فلسطينية "مستقلة " وتارة "ذات سيادة " ثم صار يقال "قابلة للحياة " وفي هذا مؤشر واضح على أنّ إضافة تلك الصفات لتلك الدولة إنّما هو لأنّها تفتقر إليها بالشكل الطبيعي،  وأنّ هذه الصفات ستكون فيها مصطنعة بضمانات صانعيها وإلا فإنّه لا توجد دولة تحتاج لذكر وتأكيد مثل تلك الصفات، مع الإشارة مؤخراً لصفة كونها "منزوعة السلاح" .
وخلاصة الأمر، إننا أهل فلسطين لسنا مضطرين إلى دولة فلسطينية بمعايير غربية يهودية، بل ولا يصح لنا أن نتفاءل بما يسمى الدولة الفلسطينية لتكون النتيجة لاحقا خيبة الأمل فيها لو تحققت أو التحسر عليها لو لم تكن، ولا مضطرين لعيش كابوس- وليس حلم - لو تحقق فسيكون في أحسن أحواله نسخه ممسوخة من الأنظمة العربية، فالأنظمة العربية استهلكت من حيث التجربة وسقطت في التجربة كذلك، ولسنا بحاجة لمزيد من التجارب الفاشلة، فقد أنهكتنا واستنزفتنا تلك الأنظمة سواء القديمة منها أم الحديثة كما في العراق وأفغانستان والدولة الفلسطينية موضوع الكلام.
والأمة الإسلامية اليوم باتت تدرك أفقها كأمة وليس كشعوب ونحن- مسلمو فلسطين - جزء منها، وهي صارت تتحرك باتجاه ذلك لوضع مشروعها الكبير المتمثل في الوحدة والخلافة وحكم الإسلام بدلاً من كل المشاريع، مما يضمن تحرير البلاد والعباد من ربقة الاستعمار، بل إنّ شعوب العالم وأممه الأخرى باتت تتحرك للفكاك من الاستعمار الأمريكي الغربي، وفي ظل ذلك يبقى مشروع الدولة الفلسطينية بملامحه الظاهرة المطروحة مشروعاً من مشاريع الرجعية الأمريكية المعاكسة لمسيرة الأمة نحو نهضتها، على الرغم من كونه آخذ بالتضاؤل .