بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: حمد طبيب
 
قبل أيام مضت عرضت لجنة برلمانية فرنسية على الحكومة مشروعاً لمنع ارتداء النقاب في بعض الأماكن العامة وذلك كمقدمة لمنع هذا المظهر الإسلامي ضمن قانون شامل يعم المؤسسات العامة جميعاً بما فيها الشوارع والأماكن العامة المفتوحة !!...
فقد ذكر موقع ( BBC Arabic )بتاريخ 27-1- 2010 أن تقريرا للجنة برلمانية فرنسية أوصى اليوم الثلاثاء بفرض حظر جزئي على ارتداء النقاب في البلاد، ويشمل الحظر الأماكن العامة كالمستشفيات والمدارس والمكاتب الحكومية ووسائل المواصلات والنقل العمومية.
 
 كما أوصى التقرير، الذي جاء في 200 صفحة، بالامتناع عن منح بطاقات الإقامة والجنسية لأي شخص يظهر رموزا أو إشارات واضحة تشير إلى "ممارسة التطرف" . وأورد موقع (Islam on line) نقلا عن وكالة ( أ ف ب ) بتاريخ 3/2/2010 ( أن وزارة الهجرة الفرنسية أعلنت رفضها منح جنسية بلادها لأجنبي متزوج من فرنسية، لأنه يفرض عليها ارتداء النقاب، معتبرة أن هذا الفرض لا يتماشى مع "مبادئ العلمانية" التي تنتهجها فرنسا.
 
 وقالت الوزارة الفرنسية في بيان نشرته إن "وزير الهجرة ( إريك بيسون ) يؤكد أنه وقع وسلم لرئيس الوزراء مشروع مرسوم يرفض منح الجنسية الفرنسية لمواطن أجنبي متزوج من فرنسية". وأفاد الوزير في بيانه شارحا هذا الرفض "ظهر خلال التحقيق الإجرائي واللقاء المسبق مع هذا الشخص أنه يفرض على زوجته ارتداء النقاب ويحظر عليها التنقل مكشوفة الوجه ويرفض مبادئ العلمانية والمساواة بين الرجل والمرأة".
 
كما استند الوزير الفرنسي في تعليل قراره إلى التقرير المرفوع إليه عن "الاستجواب التمهيدي" الذي يخضع له كل طالب للجنسية الفرنسية في مركز الشرطة، والذي يقصد منه التأكد من أن طالب الجنسية "مندمج" في المجتمع الفرنسي).
فما هي حقيقة هذا الأمر ، وهل صحيح أن النقاب هو إيذاء للمرأة الفرنسية، وفيه اعتداء على حضارة الغرب ومفاهيمه، ولماذا يمنع النقاب ولا يمنع غيره من مظاهر اللباس عند الحضارات الأخرى .. ؟؟
ولبيان هذا الموضوع سننظر إليه من عدة زوايا،
 الأولى: نظرة الديمقراطية الغربية والحريات لمسألة اللباس .
الثانية: نقض التبريرات الواهية لعرض هذا المشروع .
 الثالثة: السبب الحقيقي لعرض هذا المشروع .
 
أما الأمر الأول : وهو حقيقة النظام الغربي ( الديمقراطي ) ونظرته للحريات الشخصية، فالمعلوم لدى كل إنسان عنده معرفة بسيطة بالنظام الغربي أن الديمقراطية قد جعلت الحريات قاعدة وأساساً في كل التشريعات الغربية، وذلك للحفاظ على الحقوق الفردية – حسب زعمهم - فالحريات أساساً وضعت لحماية الفرد – حسبما يرون – من تسلط الجماعة، كما كان سائداً في عهد الكنيسة ورجال الدين !!
 
فكانت الحرية الشخصية مثلاً لحماية الفرد في تصرفاته الخاصة في المأكل والمشرب والملبس، والتصرفات الفردية، والمعاشرة الجنسية والميول الشخصية نحو الآخرين من الجنسين !!
 
وكانت حرية الاعتقاد حماية للفرد من تسلط الجماعة في أمور الاعتقاد، واتباع الدين أو الفكر الذي يراه الإنسان صواباً ويحقق عنده الطمأنينة وغير ذلك ..
 
وكانت الحريات المتعلقة بالملكية من حيث حيازة الملك وتنميته والتصرف به، كانت حماية أيضاً للحقوق الفردية عند الإنسان من سيطرة الجماعة وتسلطها ..
 
وقد سطرت هذه الحريات في كل الدساتير الغربية واعتبرتها بعض الدول أمراً مقدساً لا يجوز لكائن من كان أن يمسها أو يمارس مضايقات بحقها، ومن شدة شغف المجتمعات الغربية وخاصة فرنسا وأمريكا لأمر الحريات جعلت لهذا الأمر تمثالاً كشعار لهذا الأمر سموه تمثال الحريّة ..
 
ففرنسا بالذات تعتبر نفسها البلد الأول في أوروبا الداعية للحريات، وصاحبة الثورة الفرنسية الشهيرة التي اعتبرت الدعوة للحريات أساساً لها، وقد سمحت بالفعل لجميع الناس بممارسة حرياتهم الشخصية والدينية وفي مجال الملكية، حتى أنها لم تمنع الأحزاب الاشتراكية من ممارسة حريتها داخل فرنسا في حين منعتها دول أخرى مثل أمريكا في فترة الدعاية للثورة الاشتراكية ..!!
 
وحقيقة الأمر أن فرنسا لم تمنع سابقاً أي شخص في فرنسا من اعتناق الإسلام، ولم تمنع بناء المساجد في فرنسا، ولم تمانع سابقاً كذلك من ارتداء الزيّ الشرعي ومنه النقاب، فما حقيقة هذه المبررات التي تعرضها فرنسا اليوم ضد النقاب؟ وهل صحيح أن النقاب كما تقول هذه اللجنة البرلمانية : فيه اعتداء على كرامة المرأة الفرنسية وعلى الحضارة الغربية ؟
 
إن الحقيقة هي أنه لم يتقدم أحد في فرنسا، امرأة كانت أو رجل بدعوى لدى القضاء الفرنسي يقول فيها : إن النقاب يضايق حريتي الشخصية، بل إن الكثير من أبناء الشعب الفرنسي والأوروبي يعلنون إسلامهم بسبب إعجابهم بدين الإسلام ومظاهره ومنها اللباس الشرعي، وأكثر هؤلاء حسب الإحصاءات الرسمية هم من النساء
 
فقد أشار تقرير نشرته صحيفة "الاكسبريس" الفرنسية في 20-9-2008 إلى أن أعداد المسلمين في ازدياد من كافة الطبقات والمهن في المجتمع الفرنسي، وكذلك من مختلف المذاهب الفكرية والأديان، من علمانيين إلى بوذيين إلى كاثوليك وغيرهم، ويشير التقرر إلى أن عدد المعتنقين الجدد للإسلام من الفرنسيين يصل إلى 60 ألفا مؤخرا، سواء أولئك الذين أسلموا بدافع حبهم وإعجابهم بهذا الدين، أو بدافع البحث عن الهوية والبحث عن الذات، والكثير منهم من شباب المدن
 
 وذكر موقع (مفكرة الإسلام ) عن (بيتر فورد محرر) صحيفة ( Christian science monitor) تتحدث بعض التقديرات عن أن النساء الأوروبيات أكثر إقبالاً على اعتناق الإسلام من الرجال الأوروبيين، وأصبحت هناك نسب متزايدة ممن تعتنقن الإسلام في أوروبا عن قناعة كاملة وإيمان، هذا وإن كان الرجال الأوروبيين غير المسلمين لابد لهم أن يعتنقوا الإسلام إذا أرادوا الزواج من مسلم. وتقول الدكتورة هيفاء جواد الأستاذة بجامعة برمنجهام في بريطانيا :أن الأسباب الحقيقية الجوهرية التي تدفع الأوروبيات إلى اعتناق الإسلام هي أن "الكثير من النساء الأوروبيات يعانين من التفسخ الأخلاقي في المجتمعات الغربية، وهن يشعرن بالحنين إلى الإحساس بالانتماء والرعاية".
 
أما كارين فان نيوكيرك الباحثة التي أجرت دراسات عن النساء الهولنديات اللاتي اعتنقن دين الإسلام فتقول: "هناك أخريات في أوروبا اعتنقن الإسلام بعد أن جذبتهن نظرة هذا الدين للأنوثة والرجولة، وكيف أن الإسلام يفرد مساحة واسعة لمعاني الأمومة ومعاني الأسرة وأهميتها وأنه لا يتعامل مع المرأة باعتبارها أداة للجنس وإشباع الشهوة والمشاركة، والإسلام يقدم كل هذا المعاني المفتقدة في الغرب".
 
فالحقيقة التي يشهد بها الكثير من الفرنسيين ممن يعيشون مع المسلمين أو يتعاملون معهم هي أن سلوك المسلمين وزيهم الشرعي وعباداتهم لا تشكل أي اعتداء على الحريات الشخصية أو الدينية عند الفرنسيين، ونصل إلى الزاوية الثالثة في هذا الموضوع وهي، السبب الحقيقي وراء مثل هذه الحملات التي بدأت تبرز في بعض الدول الأوروبية ومنها فرنسا ..
 
وهذا الأمر – أي المضايقات التي بدأت تبرز في المجتمعات الأوروبية من قبل الحكومات أو الهيئات والمؤسسات المرتبطة بها أو الموجهة بسياساتها – نعزوه إلى ثلاثة أسباب رئيسة،
 
 1-: هو أطماع الحكومات في بلاد المسلمين سياسياً واقتصادياً، حيث برز لهذه الدول أمر جديد لم يكن في حساباتهم وهو المدّ الإسلامي، حيث أخذت الجماعات الإسلامية العاملة المخلصة تنادي بطرد النفوذ الأجنبي من بلاد المسلمين، وخاصة تلك الدول الاستعمارية الطامعة سياسياً وعسكرياً واقتصادياًَ كأمريكا وفرنسا وبريطانيا ... وغيرها.
 
فهذه الجماعات أصبح لها نفوذ وتأييد واسع في بلاد المسلمين، وأصبحت تهدد النفوذ الأجنبي بشكل جدّي، وأصبحت هذه الجماعات تمتدّ جذورها وفروعها في معظم الدول الأوروبية، وأصبح لها امتداد ونفوذ في هذه الدول أيضاً، مما جعل الدول الأوروبية تنظر للإسلام والمسلمين الملتزمين نظرة عداوة، وتنظر حتى لبعض الأمور التي لا تتعارض مع الحريات العامة في أوروبا، تنظر إليها نظرة عداء كالجلباب والنقاب، وبناء المساجد والجماعات والأحزاب الإسلامية .
 
فمعاداة الدول الأوروبية للإسلام وللمسلمين في الغرب أصبحت ضمن نظرتها للجماعات الإسلامية ولتهديدها لمصالحها في بلاد المسلمين .
 
2- الأمر الثاني الذي جعل الغرب يشن هذه الحرب الهوجاء الشريرة على المسلمين ومشاعرهم الدينية هو ضعف الفكر الغربي وحضارته الواهية أمام الفكر الإسلامي الراسخ الشامخ !!
 
فالحقيقة التي يدركها قادة ومفكروا الغرب هي أن العدوّ الرئيس للحضارة الغربية بعد ذهاب الاشتراكية كفكر مطبق في أرض الواقع هو الإسلام، لذلك جعل الغرب عدوّه الرئيس بعد الاشتراكية الإسلام، وهذا ما صرح به أكثر من مفكر أو سياسي غربي،
 
فلو نظرنا إلى مسألة ضعف الفكر الغربي وهشاشته أمام الفكر الإسلامي وقوته لرأينا بروز هذا الأمر في القناعات التي تحصل يومياً عند الناس في أوروبا وأمريكا على السواء، حيث تجد العشرات بل المئات والآلاف ممن يعلنون إسلامهم بسبب تعرفهم على فكر الإسلام، ومقارنتهم بين هذا الفكر وبين ما هم عليه من فكر واه ضعيف !!
 
لذلك فإن الغرب، وخاصّة القادة والسياسيين فيه وضعوا الإسلام على المرتبة الأولى كعدوّ للحضارة الغربية، وزادوا من التضييق على المسلمين وخاصّة على العاملين والملتزمين بدينهم، فأخذوا ينادون بمنع الأحزاب الإسلامية من العمل داخل أوروبا وأمريكا واعتبارها أحزاباً ممنوعة، وأخذوا بإعلان العداء للمسلمين في بعض المناطق كألمانيا، وفي أماكن أخرى أخذوا يسنون القوانين ويوجدون التشريعات التي تمنع المآذن واللباس الشرعي ( كما ذكرنا ) !!
 
3- الأمر الثالث في أسباب هذه الحرب الشريرة على اللباس الشرعي وغيره من مظاهر إسلامية في أوروبا وأمريكا على السواء هو مجاراة هذه الدول لما يسّمى بالحرب على الإرهاب التي افتعلتها أمريكا وجارتها فيها الكثير من الدول في العالم رغباً ورهباً !!
 
فأمريكا ودول أوروبا أرادت تنفيذ سياسات معينة في بلاد المسلمين منها السيطرة على بعض المناطق كالخليج العربي وأفغانستان، وأرادت ذريعة لذلك تقنع بها شعوبها التي عرفت الديمقراطية، فلم تجد سوى مسألة الإرهاب وافتعال بعض الأحداث أو استغلالها مثلما فعلت أمريكا بعد حادثة البرجين في 11 أيلول 2001، ثم تطورت هذه الحرب وتوسعت لتطال حتى المسلمين في دول أوروبا وأمريكا وتطال مشاعرهم وأماكن عباداتهم كما هو حاصل الآن من تضييق وممارسات هابطة ضد الجاليات الإسلامية !!
 
فأمريكا وأوروبا على السواء اتخذت من قضية محاربة الإرهاب غطاءً ساتراً لمحاربة الإسلام وتحاول إيجاد القناعات عند الشعوب الغربية "بأننا نحارب الإرهاب من خلال محاربتنا لبعض الرموز أو المشاعر أو المظاهر أو العبادات .."
 
وبهذا نرى أن ما يقوم به الغرب من ممارسات ضد المسلمين تحت ذرائع ومسميات ما هو إلا كذب وتضليل للرأي العام في الشعوب الغربية وذلك من أجل وقف انتشار الإسلام وامتداده في بلادهم، وما هو كذلك إلا ذرائع وأكاذيب من أجل تبرير تجاوز الحريات والديمقراطيات التي يتغنون بها ..
 
وهذا يقودنا للقول في ختام هذا الموضوع : أن هذه الممارسات الساقطة الشريرة التي يقوم بها الغرب ما هي إلا أمور جديدة تضاف إلى قائمة الخروقات لمبدأ الحريات والديمقراطيات التي يفخر بها الغرب على العالم، وبالتالي ظهور هذه الديمقراطيات بمظهرها الحقيقي الكاذب المخادع الذي يكيل بمكيالين، ويظهر بمظهرين متناقضين، ويقودنا للقول كذلك بأن هذه الممارسات وهذه الحروب الشريرة على الإسلام وأهله لتظهر بوضوح هشاشة حكام المسلمين وعجزهم عن الدفاع عن رعاياهم وشعوبهم في الداخل والخارج، وعدم حساب الغرب لهم أي أمر، فهم ليسوا أكثر من عبيد عند أسيادهم الأمريكان والأوروبيين !!
 
وإن هذا الحال للمسلمين في الداخل والخارج ليقرع الآذان والعقول للمسلمين يقول لهم : إن حال المسلمين بحاجة لكيان يحمي بيضتهم في الداخل ويوفر لهم أسباب الأمن والطمأنينة كي لا يضطروا للسفر إلى بلاد الغرب يكونوا عاجزين فيها عن ممارسة أبسط الأمور في العبادات، وكذلك بحاجة إلى كيان يجلب لهم العزة في نظر أعدائهم من الغرب والشرق كما كان الحال في السابق
 
فالأمة الإسلامية بحاجة إلى دولة إسلامية تحمي بيضتهم وتجلب لهم العزة والكرامة، نسأله تعالى أن يمن علينا بذلك قريباً ... آمين يا رب العالمين .