السؤال:
أعلنت مجموعة ضباط من الجيش والحرس الرئاسي والأمن في الغابون يوم 30/8/2023 الاستيلاء على السلطة، ووضع الرئيس الغابوني علي بونغو قيد الإقامة الجبرية بعد ساعات من إعلان اللجنة الانتخابية عن فوزه بولاية ثالثة. وأعلنت عن إلغاء الانتخابات وحل مؤسسات الدولة وإغلاق الحدود حتى إشعار آخر. وأعلن عن تعيين قائد الحرس الرئاسي نغيما رئيسا انتقاليا للبلاد.. فما سر هذا الانقلاب؟ وما علاقته بالصراع الدولي في المنطقة؟
الجواب:
لكي يتضح الجواب على هذا الانقلاب نستعرض الأمور التالية:
1- الغابون بلد يقع في وسط غربي أفريقيا يطل على المحيط الأطلسي، احتله المستعمرون الفرنسيون عام 1885 وأعطوه الاستقلال الشكلي عام 1960. علما أنه يوجد قاعدة عسكرية في الغابون في العاصمة ليبرفيل حيث يوجد فيها نحو 1000 عسكري فرنسي يشرفون على حماية المصالح الفرنسية في البلد ويؤمنون استدامة النفوذ الفرنسي فيه. وسكان هذا البلد قليلون؛ نحو 2,3 مليون نسمة حسب إحصاء عام 2022، بالنسبة لمساحة البلد التي تبلغ نحو 270 ألف كم2، ونسبة المسلمين قليلة كما تذكر الإحصاءات، ومنهم الرئيس المخلوع والرئيس الانتقالي الجديد، حيث تبلغ هذه النسبة بين 10 و12%، تعيش أغلبيتهم في العاصمة ليبرفيل. وهو بلد غني بموارده الطبيعية، فيعتبر ثاني منتج في العالم للمنغنيز الذي يستعمل في صناعة الفولاذ والحديد والبطاريات، بجانب وجود الذهب والماس واليورانيوم بكميات كبيرة، وفيه احتياطي ضخم من النفط والغاز، ولهذا فهو عضو في منظمة الأوبك. وتستحوذ على القسم الأكبر من هذه الثروات الشركات الفرنسية التي يبلغ تعدادها هناك نحو 110 شركات حسب بيانات وزارة الخارجية الفرنسية على موقعها الإلكتروني، منها شركة إراميت الفرنسية للتعدين التي تستخرج المنغنيز، وشركة توتال الفرنسية للطاقة التي تستخرج النفط والغاز. والغابون كالنيجر ومالي والسنغال وتشاد إحدى الدول الأربع عشرة التي عملتها مربوطة بالعملة الفرنسية تحت مسمى الفرنك الأفريقي المرتبط باليورو حيث يصب في مصلحة فرنسا والاتحاد الأوروبي، ودخلها يتحول إلى البنك المركزي الفرنسي، فيشكل الاحتياطي الفرنسي من العملات، ومن ثم تعطيها فرنسا الفتات، وهكذا أصبح سكانها فقراء وتسرق فرنسا ثرواتهم.. ويطالب الناس في هذه البلدان بفك هذا الارتباط وتحويل الأموال إلى بنوك بلدانهم الأفريقية وتوزيع الثروات عليهم.
2- الرئيس المخلوع علي بونغو استلم الحكم في انتخابات صورية عام 2009، بعد وفاة والده عمر بونغو الذي ترأس البلاد نحو 41 عاماً، فالولد ورث العمالة لفرنسا عن والده، وأعلن عن فوزه في انتخابات 2016. ولا يحق له أن يترشح لولاية ثالثة حسب الدستور في الغابون، إلا أنه توافق مع الأحزاب الأخرى على أن يخوض الانتخابات فوافقت هذه الأحزاب على ذلك. وأظهرت نتائج الانتخابات التي جرت يوم 26/8/2023 فوز علي بونغو بنسبة 64,27%. ويوم الإعلان عن هذه النتائج قامت مجموعة ضباط من الحرس الرئاسي والجيش والأمن بانقلاب على الرئيس ووضعه تحت الإقامة الجبرية.. وقالت المجموعة في بيانها الأول الذي تلاه ضابط برتبة عقيد من القصر الرئاسي عبر قناة "غابون 24": "نحن قوات الدفاع والأمن المجتمعة ضمن لجنة المرحلة الانتقالية وإعادة المؤسسات قررنا باسم الشعب الغابوني الدفاع عن السلام من خلال إنهاء النظام القائم. لهذه الغاية ألغيت الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم 26/8/2023 فضلا عن نتائجها". وقد أعلن المتحدث باسم الضباط وهو يعلن إنهاء النظام القائم أنه "تم توقيف نور الدين بونغو ابن الرئيس ومستشاره المقرب، بالإضافة إلى رئيس مكتبه ونائبه، وعدد من مستشاريه والناطق باسم الرئاسة، ورجلين آخرين من أهم رجال الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم الذي يتزعمه الرئيس علي بونغو بتهمة الخيانة العظمى ضد مؤسسات الدولة واختلاس أموال عامة واختلاس مالي دولي ضمن عصابة منظمة وتزوير توقيع الرئيس والفساد والاتجار بالمخدرات". فيظهر أن الانقلاب مدبر من كل القوى العسكرية في البلاد، وإذا علمنا أن الوسط العسكري تسيطر عليه فرنسا فإن أصابع الاتهام تشير إليها.
3- ومن جانب آخر، فقد وجه الرئيس علي بونغو عقب خلعه رسالة عبر وسائل التواصل الإلكتروني من منزله وتبدو عليه ملامح القلق قائلا ("أنا علي بونغو أونديمبا رئيس الغابون أوجّه رسالة إلى جميع أصدقائنا في كل أنحاء العالم لأطلب منهم أن يرفعوا أصواتهم بشأن الأشخاص الذين اعتقلوني وعائلتي"... سكاي نيوز عربية 30/8/2023). فلم تهتم به أية جهة، لا فرنسا ولا أمريكا ولا الاتحاد الأفريقي، ولم يتصل به أحد كما حصل مع الرئيس النيجري محمد بازوم. بل اهتمت الصحف الفرنسية بقائد الانقلاب كأنها تعمل على تلميعه وتعطيه الحق في الانقلاب. فنقلت جريدة لوموند الفرنسية يوم 30/8/2023 عن قائد الانقلاب وقائد الحرس الجمهوري في الغابون بريس أوليغي نغيما قوله "إن الرئيس علي بونغو خرق الدستور، ولا يحق له الترشح لولاية ثالثة، وإن طريقة التصويت نفسها لم تكن جيدة، لذلك قرر الجيش تولي مسؤولياته. وإن علي بونغو بات رئيس دولة متقاعدا ويتمتع بجميع حقوقه كأي مواطن". والجدير بالذكر أن قائد الحرس الرئاسي نغيما كان مقربا من الرئيس علي بونغو وهو ابن عمه، كما كان مقربا من والده عمر بونغو وعمل مستشارا خاصا له حتى وفاته. وقد عاد إلى البلاد بعدما عمل مستشارا عسكريا في سفارة بلاده في السنغال والمغرب بعد إصابة علي بونغو بسكتة دماغية في تشرين الأول 2018 أقعدته نحو 10 أشهر.. وكان قد أبعد إلى الخارج مدة سنتين، ومن ثم أعيد وعين رئيسا للحرس الرئاسي ما يعني أن الجهة التي يواليها أرادته أن يعود ليتهيأ لمرحلة ما بعد الرئيس شبه المشلول. فقال المرشح الرئاسي للمعارضة ألبير أوندو أوسا في تصريح لقناة "تي في 5 بوند" الفرنسية يوم 31/8/2023: "يجب أن نضع الأمور في سياقها. أولا، لا يتعلق الأمر بانقلاب عسكري بل بثورة قصر. إن أوليغي نغيما هو ابن عم علي بونغو.. معسكر بونغو توصل إلى قناعة بأنه يجب إزاحة علي بونغو للحفاظ على نظام آل بونغو.. أوليغي نغيما تابع، وخلفه تقف عائلة بونغو التي تسيطر على السلطة".
4- أما الموقف الفرنسي الرسمي فقد نقلت بي بي سي يوم 30/8/2023 تصريحات المسؤولين الفرنسيين، (فقالت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن "إن باريس تتابع الوضع في الغابون عن كثب" وقال مصدر في الإليزيه "إن باريس تندد بكل وضوح بانقلاب الغابون وإن الرئيس ماكرون لم يتواصل مع الرئيس بونغو وإن فرنسا تأمل العودة سريعا للنظام الدستوري في الغابون إلا أنها لا تتدخل في الشأن السياسي الداخلي لهذا البلد. إن الحل ليس بالانقلاب العسكري ولكن بانتخابات حرة ونزيهة تضمن تطلعات الشعب الغابوني"). فهذا الموقف وإن يظهر فيه تنديد بالانقلاب لكنه موقف مؤيد له، وجاء التنديد مسايرة للرأي العام ضد الانقلابات العسكرية، لأن تصرفات الرئيس الفرنسي تؤكد أن التنديد ليس جادا، فلم يتواصل مع الرئيس المخلوع كما فعل مع الرئيس النيجري ولم يندد هو شخصيا بالانقلاب، ولم يهدد ولم يطالب بالتدخل كما فعل تجاه النيجر، واعتبر الأمر داخليا ولا يتطلب التدخل. وهذا مختلف مع محاولته التدخل في الشأن الداخلي في النيجر، ورفض الاعتراف بالانقلابيين فيها، ورفض طلبهم بمغادرة السفير الفرنسي النيجر. وقول ماكرون إن الحل بانتخابات حرة نزيهة يعطي مبررا للانقلابيين وتأييدا لهم. فيرجح أن تكون فرنسا هي من وراء هذا الانقلاب، خاصة أن الغابون بالنسبة لها مصدر حيوي. نقلت مونت كارلو الفرنسية يوم 31/8/2023 عن كارولين روسي مديرة معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس قولها "فرنسا بدون الغابون سيارة بدون بنزين، والغابون بدون فرنسا سيارة بدون سائق".
5- ويؤكد أن فرنسا كانت من وراء هذا الانقلاب موقف الاتحاد الأوروبي. فقد صرح مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل على هامش اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي رقم 27 في طليطلة بإسبانيا يوم 31/8/2023 قائلا: ("إنه لا يمكن تشبيه ما يجري في الغابون بما يجري في النيجر" معتبرا أن العسكريين في ليبرفيل تدخلوا بعد فوز الرئيس المخلوع علي بونغو في انتخابات شابتها مخالفات". وأضاف "إن الانقلابات العسكرية ليست الحل، لكن يجب ألا ننسى أن انتخابات مليئة بالمخالفات جرت في الغابون. وإن تصويتا مزورا يمكن اعتباره انقلابا مؤسساتيا مدنيا" وقال "إن ثمة انقلابات عسكرية وأخرى مؤسسية" وقال "لا توجد خطة لإجلاء مواطني دول الاتحاد الأوروبي من البلد الأفريقي"... الشرق الأوسط، الميادين 31/8/2023). فهو يبرر الانقلاب الذي حصل في الغابون، بل إنه يؤيده لأنه حصل تزوير ولم يحتج عليه من قبل! ويظهر أن المسؤول الأوروبي لم يكن يدري ماهية الانقلاب في البداية، ولهذا قال عقب الانقلاب مباشرة ("إن وزراء الاتحاد سيناقشون الموقف في الغابون وإن ما يحدث في غرب أفريقيا مشكلة كبيرة لأوروبا. إذا تأكد ذلك (الانقلاب) فسيكون انقلابا عسكريا آخر يزيد من الاضطرابات في المنطقة بأكملها"... الجزيرة، 30/8/2023). ولكن عندما اجتمع بعد يوم مع وزراء الاتحاد الأوروبي ومنهم وزير خارجية فرنسا علم الحقيقة أن هذا الانقلاب لحساب أوروبا، ولا يزيد الاضطرابات لها! فقام وبدل تصريحاته!
6- هناك رفض شعبي لفرنسا في الغابون وفي سائر دول أفريقيا. وكان الرئيس الفرنسي ماكرون قد زار دولاً أفريقية عدة قبل أشهر، فرأى اللعن على الاستعمار الفرنسي والرفض لفرنسا. وقد وصل ماكرون الغابون يوم 2/3/2023 فهاجمه الناس واتهموه بدعم نظام بونغو وفساده، وأقر ماكرون بوجود استياء متنام حيال فرنسا وطلب بناء علاقة جديدة متوازنة ومتبادلة ومسؤولة مع أفريقيا. ويرى الناس وخاصة جيل الشباب وجود القوات الفرنسية بحجة محاربة الإرهاب تجسيداً لإرث استعماري ويدعون إلى استقلال جديد. ويظهر أن فرنسا قامت بهذا الانقلاب للحفاظ على نفوذها ومصالحها في ظل الانقلابات التي حصلت في المنطقة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.. وتريد أن تعزز نفوذها بقائد عسكري على غرار قادة الانقلابات في تلك الدول ليكون من جنسهم كقائد عسكري انقلابي ويقف في وجههم لحساب فرنسا وليحافظ على مصالحها أو ربما يندس بينهم ليشوش عليهم بعدما تحالفوا في وجه فرنسا ومحاولات تدخلها. علما أن علي بونغو مريض وقد أصيب بجلطة دماغية أقعدته 10 أشهر، ويشاع أنه لا يتمتع بقدراته العقلية والبدنية بشكل كامل فتريد فرنسا أن تستبدل به عميلاً آخر ومن العائلة نفسها، ويظهر أن دائرته التي اعتقلها الانقلابيون هم الذين يتحكمون في الشؤون وعلى رأسهم ابنه نور الدين بونغو، فهم متهمون من قبل الناس، وبذلك يتمكن الانقلابيون من خداع الناس وظهورهم بمظهر المخلص.