السؤال:
أعلن قادة الانقلاب في النيجر مساء الأحد 2023/8/13 (أنهم يعتزمون محاكمة الرئيس المعزول محمد بازوم بتهمة "الخيانة العظمى" و"تقويض أمن البلاد"،.. وجدد قادة الانقلاب في بيانهم التنديد بالعقوبات التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)... الجزيرة 2023/8/14) وكان الجنرال عبد الرحمن تشياني قائد الحرس الرئاسي في النيجر قد أعلن على شاشة تلفزيون بلاده الرسمي يوم 2023/7/28 عن تنصيب نفسه رئيسا انتقاليا للبلاد، وذلك بعد يومين من إعلان عساكره في الحرس الرئاسي الذين أطلقوا على أنفسهم "المجلس الوطني لحماية الوطن" عن الإطاحة برئيس البلاد محمد بازوم ومحاصرته في مقر إقامته، فهل كانت هذه العملية الانقلابية أمرا داخليا يتعلق بالصراع بين القوى المتنفذة في البلاد، أم أن هناك قوى خارجية تقف خلفها وأن العملية داخلة ضمن الصراع الدولي؟ ثم كيف يُفهم اتهامه بالخيانة ولكنه لم يعتقل بل يتصل بمسئولين في الخارج؟
الجواب:
لكي تتضح الصورة نستعرض الأمور التالية:
أولاً:خلفية الانقلاب ورجاله الذين قاموا به:
1- أعلن الكولونيل ميجور أمادو عبد الرحمن محاطا بتسعة من العسكريين يرتدون الزي الرسمي العسكري قائلا: ("نحن قوات الدفاع والأمن المجتمعين في المجلس الوطني لحماية الوطن قررنا وضع حد للنظام الذي تعرفونه. ذلك يأتي على إثر استمرار تدهور الوضع الأمني وسوء الإدارة الاقتصادية والاجتماعية"، وطلب من "جميع الشركاء الخارجيين عدم التدخل" وأعلن عن "حظر للتجول من العاشرة مساء حتى الخامسة صباحا على كامل التراب حتى إشعار آخر"... فرانس برس 2023/7/26).
2- في اليوم التالي أعلن الجيش تأييده للانقلاب بعد تباطؤ في اليوم الأول.. فقد نقلت الصفحة الفرنسية الرسمية "فرانس24" يوم 2023/7/27 إعلان الجيش في النيجر ولاءه لقوات الدفاع والأمن التي أطاحت بالرئيس محمد بازوم وذلك "تفاديا للاقتتال داخل صفوف القوات المسلحة" وأضافت الصفحة قائلة: "وتحدث بيان وقعه رئيس أركان الجيش عبده صدّيق عيسى عن "تأييد إعلان العسكريين وضع حد لنظام بازوم"، ويبدو أن قيادة الجيش بعد التباطؤ ليوم أنها لا تستطيع إفشال الانقلاب فأيدت.
3- ذكرت وكالة الحرة في 2023/7/29 أن "تشياني كان وفيا للرئيس السابق محمدو يوسفو الذي عينه قائدا للحرس الرئاسي خلال ولايتيه الرئاستين من 2011-2021"، وذكرت مجلة "جون فريك" الفرنسية المتخصصة في الشؤون الأفريقية أن "الحرس الرئاسي كان محل اهتمام كبير من قبل الرئيس محمد يوسفو الذي منحه كل الصلاحيات والإمكانيات للحيلولة دون وقوع انقلابات" وأضافت أنه "يقال عن الجنرال تشياني إنه رجل قاس ويخشاه الجيش". فيفهم من ذلك أن الرئيس السابق كان يخشى من الجيش إذ يسيطر عليه الموالون لفرنسا وهي التي أسسته منذ أن أعطت الاستقلال الشكلي للنيجر، وكانت محاولة الانقلاب الفاشلة على يوسفو في 2015، ولا يستبعد أن يكون هناك من أتباع فرنسا في الجيش هم الذين قاموا بالمحاولة، ولهذا قام بترقية عبد الرحمن تشياني وتعزيز قوته ليكون حارسا له من الانقلابات التي يقوم بها عملاء فرنسا لأسباب مختلفة.
4- لقد حصلت أربعة انقلابات ناجحة وعدة محاولات انقلاب فاشلة في النيجر منذ إعلان استقلاله الشكلي عن فرنسا عام 1960، وآخر الانقلابات الناجحة قبل الأخير كان عام 2010 من قبل عساكر ضد الرئيس محمد تانجا عميل فرنسا وأعلنوا عن تشكيل "المجلس الأعلى لإعادة الديمقراطية"، وعينوا رئيسا له اسمه سالي جيبو قائد وحدة الدعم في العاصمة نيامي. وكنا قد أصدرنا جواب سؤال يتعلق بذلك الانقلاب بتاريخ 2010/2/20 قلنا فيه: "إن إشارة التصريحات الأمريكية إلى حادثة التمديد هي لوضع المسؤولية الفعلية على الرئيس المخلوع تانجا وتبرير الانقلاب، كما أن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية لم يدع إلى إعادة الرئيس، ولا إلى الحوار بين الانقلابيين والرئيس المخلوع، بل دعا إلى تنظيم انتخابات جديدة وتشكيل حكومة جديدة. فيؤكد كل ذلك أن أمريكا كانت وراء الانقلاب... ولكن النفوذ الفرنسي بكل أشكاله بقي فيه ولا زال يقيم فيه نحو 1500 فرنسي لتأمين مصالح فرنسا النووية حيث هو ثالث بلد في العالم في إنتاج اليورانيوم، ولهذا فهو محل مطامع الأمريكيين للسيطرة عليه وإبعاد النفوذ الفرنسي عنه كباقي بلاد أفريقيا وأكثرها بلاد إسلامية وغنية بموارد طبيعية كثيرة وهي مصادر للمواد الخام بشتى أنواعها، وكذلك مصادر للطاقة، ولذلك كانت محل صراع بين الطامعين المستعمرين الغربيين من الأوروبيين والأمريكيين".
5- وبالفعل بعد ذلك الانقلاب بفترة وجيزة، عدة شهور، جرت انتخابات حسب المطالب الأمريكية في عام 2011 فاز فيها رئيس الحزب النيجري للديمقراطية والاشتراكية محمد يوسفو الذي أصبح رئيسا للبلاد بصورة رسمية منذ 2011/4/7. وعقب ذلك استقال من رئاسة الحزب وتولاها محمد بازوم وهو أحد المؤسسين لهذا الحزب منذ عام 1990 مع يوسفو وصديقه المقرب، وعينه يوسفو وزير دولة للشؤون الخارجية، ومن ثم عينه وزيرا للدولة برئاسة الجمهورية منذ عام 2015، وعندما انتخب يوسفو لولاية ثانية عين بازوم وزير دولة للشؤون الداخلية والأمن العام واللامركزية. ويوسفو ومحمد بازوم كانا من المعارضين للرئيس محمد تانجا، وعندما أطيح بمحمد تانجا بانقلاب عسكري يوم 2010/8/18 أبدى يوسفو وبازوم تأييدهما للانقلاب. فيفهم من كل ذلك أن يوسفو وبازوم هما مواليان لأمريكا.
6- وعندما تولى محمد يوسفو الرئاسة بالانتخابات لولايتين بين عامي 2011-2021 أظهر تقاربه من أمريكا، فسمح لها بإنشاء قاعدتين عسكريتين مهمتين في النيجر إحداها عام 2014 والأخرى عام 2018، يتمركز فيهما أكثر من ألف جندي أمريكي والكثير من الطائرات بدون طيار. فقد نشر موقع نون بوست في 2018/9/13 موضوعا مترجما حول القواعد الأمريكية في النيجر، نقل فيه تصريحات للرئيس السابق محمد يوسفو في مقابلة مع صحيفة الغارديان قال فيها "أنا لا أحب استخدام مصطلح قوات أجنبية، لأن القوات الأمريكية قوات صديقة.. علما بأنها حلت بالبلاد استجابة لطلبنا. وبمجرد أن تنتهي مهمتها ستغادر النيجر". ومع ذلك فإن يوسفو أبقى على علاقات بلاده وتحالفاتها مع فرنسا ولم يخرج القوات الفرنسية، بل شارك في تحالف دول الساحل الذي أسسته وقادته فرنسا بدعوى محاربة الإرهاب عام 2014. ويظهر أنه لا يستطيع قلع النفوذ الفرنسي من النيجر بسهولة، فسايره حتى يقوى النفوذ الأمريكي الذي أدخله البلاد بذريعة محاربة الإرهاب.
7- وعندما انتخب محمد بازوم يوم 2021/2/21 وتولى الرئاسة رسميا يوم 2021/4/1 خلفا لمحمد يوسفو وبدعم منه، فقد تعهد بمتابعة سياسة محمد يوسفو. وقبل يومين من تنصيبه أحبطت محاولة انقلاب ضده وكان لقائد الحرس الرئاسي عبد الرحمن تشياني الموالي لمحمد يوسفو دورا مهما في إحباطها.. وقد بقي بازوم مصادقا على الوجود الأمريكي وعمل على تعزيز العلاقات مع أمريكا. وقد نقلت صفحة عربي21 عن موقع إنترسبت الأمريكي في 2023/7/27 في تقرير للموقع عن الوجود الأمريكي في النيجر قول محمد بازوم لوزير خارجية أمريكا بلينكن "إن الولايات المتحدة تظل الخيار المفضل، وهي بحاجة لأن نثبت أننا نستطيع تقديم نتائج حقيقية". فتبدو سياسة محمد بازوم كسلفه وصديقه محمد يوسفو هي موالاة لأمريكا وعدم معاداة لفرنسا ولوجودها حيث إن الوسطين السياسي والعسكري بشكل عام يميلان لكفة فرنسا الدولة الاستعمارية للبلاد بشكل مباشر سابقا مدة 60 عاما، ولاحقا بشكل غير مباشر مدة تُقاربها.
ثانياً: مما سبق يتبين أن محمد يوسفو، وبازوم مواليان لأمريكا، وأن قائد الحرس الرئاسي عبد الرحمن كان صديقاً مقرباً من يوسفو وقلده صلاحيات كبيرة، وأن دوراً مهماً كان له في إحباط محاولة الانقلاب على بازوم قبل توليه منصبه بيومين.. وهذا يعني أن الثلاثة على نسق واحد، فإذن لماذا هذا الانقلاب؟ إن التدقيق في وقائع ما جرى وخلفياته تبين ما يلي:
1- كما قلنا كان رئيس الحرس محل ثقة يوسفو ومقرباً منه ومدافعاً عنه ضد انقلابات عملاء فرنسا في الجيش.. وقد تناقلت وسائل الإعلام ومنها الشرق الأوسط يوم 2023/7/28 أخبارا تتعلق بقائد الانقلاب عبد الرحمن تشياني فذكرت أنه انخرط في صفوف الجيش وتقلد رتبة ضابط قبل أن يتولى مهام في الداخل، لقيادة بعض الوحدات العسكرية ولكنه برز بقوة بعد وصول الرئيس السابق محمد يوسفو إلى السلطة عام 2011 الذي جعل منه رجل ثقة. وخلال حكم يوسفو استفاد تشياني من ترقيات سريعة في الرتب العسكرية جعلته يصل إلى رتبة جنرال دون أن يسلك المسار المعهود في المؤسسة العسكرية لذلك.. وعينه يوسفو على رأس الحرس الوطني عام 2015 وهي وحدات النخبة المكلفة بحماية الرئيس.. خاصة بعد محاولة الانقلاب على يوسفو.
2- قبل وصول محمد بازوم إلى الحكم بيومين وقبل أن ينصب رئيسا للبلاد رسميا ويؤدي اليمين الدستوري تعرض لمحاولة انقلاب فاشلة عام 2021.. ما دفعه لإجراء تعديلات واسعة في كتيبة الحرس الرئاسي، ولكنه احتفظ بالجنرال تشياني على رأس الكتيبة بناء على توصية من يوسفو الذي سلم السلطة للتو، ولكنه ظل مرتبطا بصلات وثيقة مع بازوم. ويعتبر يوسفو الرجل صاحب الكلمة الأولى داخل الحزب الحاكم وأدخل ابنه في الحكومة كوزير للطاقة والمعادن.
3- وتقول مصادر إن مقربين من بازوم كانوا يحذرونه من تشياني وينصحونه بإبعاده عن قيادة كتيبة الحرس الرئاسي من أجل تثبيت حكمه ولكنه احتفظ به بناء على توصية صديقه الرئيس السابق، ولكن في الفترة الأخيرة تداول ناشطون سياسيون في مواقع التواصل الإلكتروني عن نية بازوم عزله وإجراء تعديلات على رأس المؤسسة العسكرية والحرس الوطني. ويقال إنه كان ينوي إقالة ابن الرئيس السابق من وزارة الطاقة والمعادن، وقد تسبب كل ذلك في فتور العلاقات بينه وبين الرئيس السابق.. بل وأدت إلى انزعاج يوسفو وصديقه المقرب تشياني، ومن ثم ضعفت حاضنة بازوم الشعبية، وحدث تململ عدد من قادة الحزب الحاكم من صعوده، لأنه لا ينتمي إلى قبيلة الهوسا التي تمثل نصف البلاد، بل لأصول عربية.. ويدل على ذلك ضعف التصويت له في العاصمة، وكذلك محاولة الانقلاب عليه قبل تنصيبه بيومين. فلم يكن مرحبا به من العرقيات الأخرى ولا من بعض أركان الجيش.
4- وهكذا فإن الجنرال عبد الرحمن تشياني كان قائدا للحرس الرئاسي في عهد الرئيس السابق محمد يوسفو ولكن الرئيس الحالي كان يفكر في استبداله.. نشرت الجزيرة على موقعها في 2023/7/28 نقلاً عن تقرير "ميديا بارت": (وكان الجنرال عبد الرحمن تشياني قائدا للحرس الرئاسي في عهد الرئيس السابق محمدو يوسفو، ولكن الرئيس الحالي كان يفكر في استبداله، لما هو معروف بين خبراء الجيش النيجيري من ولائه الكبير لرئيسه السابق. وقال المحلل السياسي موسى أكسر للموقع إن كل شيء كان يشير إلى أن محمدو يوسفو يريد العودة إلى السلطة.. وقد كان يريد السيطرة على النفط، ولديه الكثير من الأسهم في العديد من الشركات، وذلك وفق تقرير استقصائي أشار إلى اختلاس في وزارة الدفاع النيجيرية في عهد الرئيس السابق.) فهذا الكلام يؤكد أن للانقلاب دواعي داخلية، وكأنها الداعي الرئيس للانقلاب. ولهذا عندما حصل الانقلاب كانت هناك ردود قوية منددة بالانقلاب من قبل أمريكا وفرنسا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وروسيا والقوى الإقليمية.. وكأن الجميع فوجئ بذلك!!