ما أن أُعلن عن نهاية المبادرة المسماة (س - س) حتى أخذت الأوضاع في لبنان بالتدهور، فسقطت الحكومة إثر انسحاب وزراء المعارضة منها، وجاء تحذير وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل من تقسيم لبنان -وهو تحذير صادر عن معرفة بما يحاك للبنان- وتبع ذلك تعميق شقة الخلاف وتوسيعه بشأن المشاورات النيابية، وشخص من يشكل الحكومة والمشاركة فيها، وكذلك التهويل والتحذير من النزول إلى الشارع ومخاطره.
إن ما يجري بشأن التغيير الحكومي حالياً هو فخ أمريكي مرسوم للإيقاع بجميع أطراف الصراع الداخلي، وللاستئثار بالهيمنة التامة على لبنان، ولسحب سلاح حزب الله.
إن نزع سلاح حزب الله كان مؤجلاً في السياسة الأمريكية إلى حين التوصل إلى حلول بشأن المفاوضات السورية والفلسطينية مع (إسرائيل)، وقد كانت الإدارة الأمريكية تتخذ منه وسيلةً للضغط على إسرائيل، وتتوقع أن يؤدي هذا الضغط إلى توقيع اتفاقيات سلام في المنطقة، وكذلك كانت سوريا تستفيد من هذا السلاح في المفاوضات. لذلك فإن سفارة أمريكا في لبنان لم تعترض على تشريع سلاح المقاومة وإدراجه في البيان الوزاري إلى جانب الجيش والشعب، وكذلك فإنه بعد نيل الحكومة للثقة توجه رئيس الجمهورية ميشال سليمان إلى أميركا وقابل أوباما، فلم يعترض أوباما على تشريع المقاومة مع أن أميركا تعتبرها إرهاباً. وأكثر من ذلك فإن رئيس الجمهورية طلب من أوباما مساعدةً للجيش فوافق على مساعدة بمائة مليون دولار.
إلا أن (إسرائيل) استطاعت أن تواجه ضغوط أميركا عليها، ومن ذلك تحرُّك اللوبي اليهودي (الأيباك) في أميركا وحصوله على تواقيع أكثر من ثلاثة أرباع مجلس النواب الأمريكي بأن لا يضغط أوباما على إسرائيل، فتبخرت آمال أوباما بالضغط عليها بشأن القدس والضفة والجولان.
ونتيجة لذلك، إضافة إلى سياسة فرنسا في لبنان والتلويح بالقرار الاتهامي، صار سلاح المقاومة يؤذي سياسة أمريكا في لبنان، وبخاصة حين عُقِد مؤتمر بكركي الذي ضم جميع زعماء الموارنة ما عدا عون وفرنجية، وأصدر بياناً يخاطب رئيس الجمهورية أنهم لا يقبلون بسلاح المقاومة الذي أصبح يستعمل في الداخل، ولمَّح إلى كنتون بعيد عن نفوذ حزب الله وهذا ما أكده النائب سامي الجميّل على قناة العربية. وقد أصدر تيار المستقبل في اليوم التالي بياناً يؤيد بيان بكركي، وأصدر المجلس الشرعي السني برئاسة مفتي الجمهورية بياناً يؤيد بيان بكركي. وظهر أن فرنسا تدعم تحرك الموارنة هذا، وتحاول استقطاب دعم التيار السني للموارنة. فخشيت أميركا أن تنجح فرنسا في شق لبنان واستقطاب جانبٍ منه تدعمها عدة دول أوروبية ويدعمها الفاتيكان. لذلك رأت أميركا إسقاط حكومة سعد الحريري وتشكيل حكومة ترضي المعارضة (المقاومة). فكان اتصال الملك عبد الله بالرئيس بشار الأسد برفع يده عن المبادرة المسماة (س - س). فسقطت المبادرة وتبعها إسقاط الحكومة. ولم تحصل إشكالات بين الملك عبد الله وبشار الأسد حين أعلن عبد الله انسحابه من المبادرة، ما يدل على أن انسحاب السعودية متفاهم عليه مع سوريا. وكانت بعض الجهات السعودية نصحت سعد الحريري أن يتنحى عن الحكومة، من ذلك ما كتبه داود الشريان في جريدة الحياة في (18/01/2011): «سعد الحريري (...) عليه أن يتنحى قبل أن يُنحّى» وكان قال له مثل هذا القول قبل ذلك. ونُقل عن الوليد بن طلال أنه قال لسعد الحريري «تَنَحَّ عن الحكومة بضعة أشهر ريثما تمر مسألة المحكمة». وأميركا لا تريد عودة الحريري الآن، لذلك حصلت ضغوط على جنبلاط كي يصوت مع مرشح المعارضة. وحصلت ضغوط على عدة نواب في طرابلس كي لا يعطوا أصواتهم للحريري إذا كان لا يمكنهم التصويت لمرشح المعارضة، وهذا يدل على أن ذهاب السفيرة الأميركية إلى زحلة ومقابلة فتوش لم يكن لإقناعه بالتصويت للحريري بل للمعارضة، وهي لم تقابل الحريري أو جماعة 14 آذار بل قابلت ميشال عون. ولذلك كان ميشال عون شديد الحماس لاستقالة وزراء المعارضة، وكان اتخاذ حزب الله لهذه الخطوة وقوعاً في الفخ. كتبت جريدة «النهار» في (21/01/2011) مقالاً بعنوان: «هل تسعى أميركا لإعطاء الحكم للمعارضة؟!» بقلم مالك أبي نادر (عضو المكتب التنفيذي في التيار الوطني الحر) قال فيه: «مهمة سلاحها (المقاومة) تنتهي بأحد أمرين: بانتهاء الصراع العربي الإسرائيلي، أو بوجود دولة قوية تتبنى نظرة المقاومة واستراتيجيتها لإدارة الصراع مع العدو الإسرائيلي. ومن الطبيعي أن يؤدي وصول المعارضة إلى الحكم إلى اقتناع المقاومة بأن السلطة الجديدة ستتبنى استراتيجيتها ونظرتها إلى الصراع، ما يسقط من يدها حجة الاحتفاظ بالسلاح».
من الطبيعي أن ترفض المقاومة (حزب الله) التخلي عن سلاحها إذا قيل لها ها قد تحقق لكِ حكومة تثقين بها، والجيش أنتِ مرتاحة له، فسلِّمي سلاحك لقطع حجة الموارنة والسنة المحتجين على هذا السلاح. و رَفْضُ حزب الله المتوقّع هذا سيقود أدوات أميركا إلى ترتيب عمل أمني يجرون حزب الله للقيام به ضد خصومه. وإذا فشلوا في استفزاز حزب الله وجرّه إلى هذا العمل، فالمتوقع أن تقوم أدوات أميركا نفسُها بافتعال أحداث وإلباسها لحزب الله. فقد سبق أن اعتقلت مخابرات الجيش خليةً بحوزتها ملابس وعصبات مثل التي يستعملها مسلحو حزب الله، وفُهِمَ أن هذه الخلية تُرتّب للقيام بأعمال أمنيّة. وقد يُربط ذلك بالإرهاب وبالخطر على مسيحيي لبنان ومسيحيي الشرق. إن هذا العمل الأمني متوقع عند الكشف عن القرار الاتهامي. وستُستغَلُّ تصريحات سابقة لقادة حزب الله مثل: (إذا تم اتهام عناصر من حزب الله فانتظروا سبعين سبعة أيار)، ومثل (اليد التي تمتد إلينا سنقطعها)، ومثل (إذا لم تحصل التسوية قبل صدور القرار الاتهامي فإن الفوضى ستعمّ)، ومثل (ما قبل القرار غير ما بعد القرار). وهذا مما يحرك مجلس الأمن لاتخاذ إجراءات ضد لبنان، وهذا ما تريد أميركا استثماره لجعل سوريا وإيران تفاوضانها بشأن الطلب من حزب الله كي يسلم سلاحه. هذا هو همُّ أميركا الآن: كيف تسحب سلاح المقاومة وليس همها المحكمة ولا الحكومة.
يا أهل لبنان: إن حزب التحرير حريص عليكم جميعاً؛ مسلمين وغير مسلمين. كان خطأ بل خطيئة أن تضعوا أموركم بأيدي دول أجنبية مستعمرة طامعة. نحن في الأصل لا نقبل التحاكم إلا إلى شرع الله أمام قضاة يؤمنون بهذا الشرع، فكيف إذا كانت محاكم وقضاة لدول كافرة طامعة؟
هل يدري حزب الله أن العملية كلها مؤامرة أميركية على سلاحه؟ وأن كل التصريحات والتهديدات التي أطلقها لا ثمرة منها إلا إيجاد انقسامات بين المسلمين وبين أهل لبنان؟
وهل يدري مرشح المعارضة الآن أن أميركا ستنفّذ على ظهره بعض مآربها ثم تلفظه، وخاصةً بعد تنفيذ مؤامرة التفجير اللازمة للإسراع بسحب سلاح المقاومة؟
يا أهل لبنان: إن لبنان لا توجد فيه مقومات الدولة، وآن الأوان أن يفكّر النصارى أنهم جزء من شعوب هذه البلاد وليسوا جزءاً من الغرب. وآن الأوان أن يحزم المسلمون أمرهم وأن يكونوا جزءاً من أهل المنطقة، وأن يجعلوا لبنان جزءاً من المنطقة، التي مصيرها أن تتوحد، قريباً بإذن الله، في ظل النظام الذي أنزله الله رحمةً للناس مسلمين وغير مسلمين: نظام دولة الخـلافة.