هذه قصة أحد شباب حزب التحرير، كانت السلطة الفلسطينية قد اعتقلته قبل أشهر، لا لشيء إلا لأنّه يدعو إلى ربه، ويحرص على إعزاز أمته، ويعمل لرفعتها. نضعها بين أيدي القراء الأعزاء ليطلعوا على حقيقة السلطة عن كثب، وليعلموا من هم رجال حزب التحرير.
البداية من بيت الله:
كانت البداية في يوم جمعة حين أراد الشاب عماد، أحد شباب حزب التحرير، أن يقوم بواجبه في حمل الدعوة من أجل استئناف الحياة الإسلامية، فسارع إلى مسجد مصعب بن عمير باكراً، قبل وقت صلاة الجمعة بساعةٍ، حرصاً منه على أن يقرأ أكبر عدد ممكن من رواد المسجد الورقة التي أراد تعليقها على لوحة المسجد، وتجنباً للاحتكاك بكل من تسول له نفسه تعكير صفو العمل الخالص لوجه الله. وفعلاً تم الأمر، وعلق الشاب أحد نشرات الحزب التي يحرص من خلالها الحزب على توعية الأمة وتبني مصالحها، وكشف المؤامرات التي تُحاك ضدها وضد إسلامها.
وكانت المفاجأة أنّه ما أن انتهت صلاة الجمعة حتى سارع أحد زبانية السلطة، وهو عين الشخص الغريب الذي لاحظ عماد وجوده في المسجد أثناء تعليقه للورقة، حيث كان جالساً في المسجد موهماً الناس بأنّه يقرأ القرآن في حين كان يمسك بيده الأخرى هاتفاً يلعب به. سارع هذا الشخص إلى الإمساك بالشاب معرفاً عن نفسه بأنّه يعمل في المباحث وطالباً منه الصعود إلى السيارة التي كانت بانتظاره وفيها أشخاص آخرون ممن وصلت بهم الوقاحة والجرأة على بيت الله أن دخلوا المسجد وخلعوا الورقة التي كان قد علقها الشاب عماد، ومن ثم اقتادوه إلى مركز الاحتجاز.
اختبار الشخصية
لأن المسألة عند السلطة ليست مخالفة قانونية تريد التعامل معها، أو جنحة أو جناية يريدون إحقاق الحق فيها، بل هي العنجهية والبحث عن الهيبة المفقودة، وإن حرصوا على إخفاء هذه الحقيقة المشينة، لذلك يلجأ زبانية السلطة إلى اختبار شخصية المعتقل منذ البداية ليتم بعدها التعامل معه بحسب قوتها وصلابتها وثباتها.
وهذا ما حصل مع الشاب عماد، فبمجرد أن رأى المحقق الورقة التي علقها الشاب في المسجد قال للشاب متهكماً: ما هذه، نشرةٌ لحزب الشعب؟! هل توزع نشرات لحزب الشعب؟
مع أنّ الشاب يستطيع أن لا يجيب على هذا السؤال وأن لا يصرح بانتمائه لحزب التحرير، فلا يؤكد لهم معلومة أو يسعفهم في جمع المعلومات التي يتبادلونها مع يهود ودايتون.
ولكن الشاب اختار أن يوصل رسالة تحدٍ قوية للمحقق، فجاء رده سريعاً وصلباً من الشاب عماد حيث أجابه بكل جرأة وفخر: هذه نشرة لحزب التحرير وأنا عضو في حزب التحرير!.
إذا، الشاب ليس هينا ولا ليناً. هذا هو لسان حال المحقق.
الدعوة مقدمة على النفس
انتقل المحقق إلى السؤال الثاني، من أعطاك هذه النشرة التي وجدناها في جيبك والنشرة التي علقتها؟!
ظن المحقق أنّ الجواب سيأتيه سهلاً وأن الشاب لا يفكر إلا بأن ينجو بنفسه.
ولكن الجواب جاء على عكس ما يشتهي، فقال عماد: هذا السؤال لا يُسأل؟
المحقق ولما لا يُسأل، أنا هنا لأسألك وأنت لتجيب؟ نسي المحقق أنه يتعامل مع حامل دعوة يحرص على الدعوة ورجالها أكثر من حرصه على نفسه.
الشاب: لا جواب عندي.
الآن وضحت الصورة لدى المحقق، شابٌ لم يخش من ذكر عضويته في حزب التحرير، ولم يحاول أن يسترضي المحقق، ويتحدى المحقق في أجوبته.
لسان حال المحقق، الشاب أصلب مما توقعت.
وتبدأ المناورات
لم يشأ المحقق أن يعلن فشله من أول جولة، فلجأ إلى الأسلوب الهمجي الذي اعتادوا عليه في التعامل مع حملة الدعوة ورافعي راية الإسلام. فبدأ التهديد: ستجيبنا على السؤال الذي نريد. خذوه إلى الزنزانة.
والشاب بدوره لم يكترث بالتهديد فلم يبد ليناً أو تغييراً. فوقع اليأس في قلب المحقق.
فكانت المناورة الأخرى بعد ساعة من الحبس في الزنزانة أن جاءه محقق جديد يلعب دور المتعقل ليحاول ثني الشاب.
فيبدأ نقاشاً مع عماد، قائلاً بأنّ المساجد بيوت الله وأنّها مكان للعبادة وليس مكاناً للفتنة من خلال تعليق نشرات داخل المسجد.
فكان الجواب الحكيم من عماد:
حزب التحرير يعمل على توحيد الأمة الإسلامية تحت راية لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكشف المؤامرات التي تُحاك ضد الأمة الإسلامية ليس بفتنة، وإنّما هو عبادة مطلوبة منّي ومنك ومن كل مسلم أن يقوم بها.
المسلمون بحاجة لمن يُفهم دورهم في الحياة أكثر من حاجتهم لمن يعلمهم الصلاة
لم يكتف عماد بما أجاب، فهو لا يتصرف وكأنه متهم، بل أحب أن يعلم المحقق كلمات لعله ينتفع بها، فقال له:
إنّ العبادة التي أنت تفهمها بأنّها فقط الصلاة، وتعلم كيفية الوضوء، وأنّ المساجد للصلاة فقط، هذا فهم خاطئ للعبادة ولدور المساجد في حياة المسلمين، فالعبادة هي الالتزام بجميع ما أمر الله والانتهاء عن جميع ما نهى عنه. ومن ضمنها الصلاة والوضوء.
ويكمل بكل جرأة وصلابة، فهذه النشرة التي أزلتموها من المسجد هي من العبادة، ففيها أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهذا الأمر يحتاجه المسلمون اليوم أكثر من احتياجهم لمن يعلمهم الصلاة والوضوء رغم أهميتها، فالمسلمون يعرفون أحكام الصلاة وأحكام الطهارة وليسوا بحاجة لمن يعلمهم إياها، ولكنهم يجهلون ما يُحاك ضدهم من مؤامرات، فهم بحاجة لمن يكشفها لهم.
وكذلك هم يجهلون دورهم في هذه الحياة، وهم بحاجة لمن يعلمهم دورهم، ويفهمهم الإسلام، وأنت باعتبارك مسلم عليك القيام بهذا العمل أيضا مثلي. وأمّا بالنسبة للمساجد في الإسلام فهي المكان الذي تُدار منه جميع شئون المسلمين، وجيوش المسلمين كانت تتدرب وتخرج للجهاد من المساجد.
ويبدأ تهاوي المحقق
لم يجد المحقق ما يقوله سوى: أنتم في حزب التحرير لا أحد يغلبكم في الكلام.
ولكن لهذه جواب أيضا عند عماد:
لأنّنا حملة حق، وأصحاب حجة وبرهان.
بداية الإفلاس
لما فُرغ ما في جعبة المحقق من أفكار ظن أنها ستسعفه، لجأ إلى قانونه لعله يعينه في تدعيم موقفه.
فقال: أنا أحترم فكركم ولكن هناك قانون يجب أن تلتزموا به.
ولكن لهذه جواب أيضا عند عماد:
قانون ربنا أولى أن نلتزم به، ويضيف، وحتى قانونكم هذا الذي تتحدث عنه لا يمنع حرية الرأي، وكذلك لا يمنع عقد ندوة أو محاضرة في مكان مغلق، ولكنكم خالفتموه ومنعتم انعقاد ندوة لنا في قاعة البلدية قبل أسبوعين واعتديتم علينا بالضرب.
المحقق: كان يجب أن تأخذوا إذناً من المحافظ.
لا ننتظر إذنا من أحد
يجيب عماد المحقق بكل وضوح، البلدية هي مؤسسة أهلية لا دخل للمحافظ بها، وكذلك ندوة تُعقد لتذكّر المسلمين بخلافتهم وعزتهم ليس بحاجة إلى إذن.
فانتهت الجولة الثانية دون جدوى.
المواجهة والتحدي
وبعد ما يقارب الساعة، بدأت الجولة الثالثة من التحقيق، التي أراد المحقق أن يبدأها بأسئلة روتينية لعله بذلك يوجد جواً من التعاون والتجاوب معه، فبعد السؤال عن اسمه ومكان سكنه، وغير ذلك. بدأ بالسؤال عن ما ورد في النشرة وعن مصدرها.
عماد: لا جواب عندي.
المحقق: النشرة المكبرة، من كبرها؟ وفي أي مطبعة طبعتها؟ أم أنه عندك مطبعة في البيت؟
عماد: لا جواب.
وليقطع عماد على المحقق الطريق، ليفقده بذلك الأمل، قال بكل شجاعة وتحدٍ:
أنا أتحمل كامل المسؤولية، ليس عن كلمة في النشرة بل عن كل حرف موجود فيها، وأنّي ها أنا ذا عندكم افعلوا ما تريدون، وإني أتحمل كافة التبعات، وأنّي مستعدّ للسجن وأكثر من السجن، للموت إذا لزم الأمر.
نحن لا نوقع على ورقة عندكم
بعد أن كتب المحقق إفادة عماد التي لم يجد فيها شيئا يُذكر، جاءته الصدمة حينما طلب منه التوقيع على الإفادة، فكان الجواب:
أنت لا تعلم أننا نحن في حزب التحرير لا نوقع على ورقة عندكم ولو كانت ورقة تحقيق!.
والدهشة تملأ قلبه، قال المحقق: وهذا عند جميع الأجهزة الأمنية؟!
عماد: نعم، اسألهم إذا كنت لا تصدق.
المحقق: ولماذا لا تقبلون التوقيع؟
عماد: توقيعي على هذه الورقة هو إقرار منّي أنني متهم كوني حزب تحرير وأعمل لنصرة الإسلام وأنا أرفض هذا الاتهام، وبالتالي أرفض التوقيع.
فلم يجد المحقق بدا إلا أن كتب على الإفادة: رفض التوقيع.
وما النصر إلا صبر ساعة
لم تكن نتيجة تمسك عماد بموقفه وثباته على فكرته محزنة، فالضار هو الله والنافع هو الله. ولئن اجتمع الأنس والجن على أن يضروا العبد بشيء لم يضروه إلا بما كتب الله عليه.
فكان عماد مع الله ولم يبالِ بالسلطة وبما يمكن أن يفعله زبانيتها به، ولم يدخل قلبه خوفٌ أكثر من خشية الله ومخافته.
فكان الجزاء على قدر العمل، أن نجاه الله من القوم الظالمين. وأرجعه إلى أهله سالماً، غانماً رضى الله ومحبته إن شاء الله. {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }يونس62.
فبعد خمس دقائق من انتهاء التحقيق، عاد إليه المحقق بلسان حال اليائس وفاقد الأمل في أن يتمكن من النيل من عزيمة وثبات عماد، ليقول له: خذ أماناتك واذهب إلى بيتك.