مَن غيرُ دولة الخلافة تنصر أهل فلسطين فتقتلع كيان يهود؟

بقلم: محمد تقي الدين

 

ورد في كتاب مفاهيم سياسية: (الوعي السياسي لا يعني الوعي على الأوضاع السياسية أو على الموقف الدولي أو على الحوادث السياسية، أو تتبع السياسة الدولية، أو الأعمال السياسية، وإن كان ذلك من مستلزمات كماله. وإنما الوعي السياسي هو النظرة إلى العالم من زاوية خاصة، وهي بالنسبة لنا من زاوية العقيدة الإسلامية، زاوية:"لا إله إلا الله محمد رسول الله" "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"، هذا هو الوعي السياسي....والواعي سياسيا يتحتم عليه أن يخوض النضال ضد جميع الاتجاهات التي تناقض اتجاهه، وضد جميع المفاهيم التي تناقض مفاهيمه، في الوقت الذي يخوض فيه النضال لتركيز مفاهيمه، وغرس اتجاهه، فهو يسير في اتجاهين في آن واحد، لا ينفصل إحداهما عن الآخر في النضال قيد شعرة، لأنهما شيء واحد، فهو يحطم ويقيم، ويهدم ويبني، يبدد الظلام ويشعل النور، وهو كما قيل:"نار تحرق الفساد، ونور يضيء طريق الهدى")انتهى.

 

لنعلم تماما وقبل الخوض في دلالات العدوان الأخير على غزة، أننا لسنا بصدد خوض تحليل سياسي، بل بصدد التركيز على القضايا الفكرية الجوهرية، فالهدف هو الوقوف على دلالات الحرب والاستفادة منها بما يخدم فكرتنا وحملنا للدعوة وإحسان مخاطبتنا للناس، وبناءً على هذا الأساس نقول:

 

أولا: لأكثر من خمسين يوماً وغزة تُقصف من كيان يهود براً وبحراً وجواً، فقتلوا البشر والشجر والحجر، والشهداء والجرحى بالألوف، وحكام بلاد المسلمين كانوا متواطئين على قتلنا، وأهل غزة يجابهون العدوان الجبان بصدورهم العارية، والمجاهدون منهم قاوموا بخفيف السلاح، وأظهروا بطولات أعادت للمسلمين الثقة بأنفسهم، والثابت الذي لا يختلف عليه اثنان أن مجاهدي غزة ومرابطيها كسروا تلك الأسطورة المكذوبة حول قوة رابع جيش في العالم، وأوقعوا نكاية حقيقية وليست موهومة وليست تزييفًا إعلاميًا كالذي اعتدناه من إعلام العرب الكذاب الفاجر، ومرغوا أنف نتنياهو في التراب، ووجهوا لحكومته لطمة قوية أنستهم طعم انتصاراتهم المزيفة مع أنظمة العرب الخيانية، وأثبتوا فيها لأهل فلسطين وللمسلمين أن كيان يهود هش، لا يقوى على المجابهة والحرب، وأنه أوهن من بيت العنكبوت، هذه الحقيقة تتأكد مرة بعد مرة وفي كل مواجهة تحدث، منذ حرب رمضان (أكتوبر 1973)، مروراً بعدوان اليهود على لبنان، وانتهاءً بالعدوان الأخير على غزة، وهذا العدوان ليس الأول من نوعه ولا الأخير، فقد سبقته جولات وصولات واعتداءات لا تقل إجراماً ووحشية شهدناها في عام 2012، ومن قبل في عامي 2008-2009، وفي كل مرة يواجَه فيها يهود بجِد نجدهم يستنجدون بالدول الكبرى والدول الإقليمية لإنقاذهم والحفاظ على شيء من هيبتهم، فلقد أثبتت غزة أن القضاء على دولة يهود من قبل جيوش المسلمين مسألة قرار لا أكثر، وأن تحرير كل فلسطين مسالة وقت، فهذا من أهم الدروس والعبر المستفادة من العدوان على غزة.

ولذلك كان تصوير حركات المقاومة أن ما انتهى إليه العدوان بأنه نصر مؤزر، وبغض النظر عن دقة هذا الوصف، فلا يجوز بحال من الأحوال السخرية من ذلك والقول بأنه هزيمة أو أنه ليس بنصر، فليست هذه هي القضية، بل القضية هي المعاني المستفادة من النظر في هذا العدوان كما سبق وأشرنا والنظر في نتائجه التي تخدم فكرتنا، وليس وصف النتيجة بأنها نصر أو هزيمة.

ومع ذلك فلا بد من الوقوف قليلاً مع مفهوم النصر من زاوية العقيدة، حتى نحسن التأتي أثناء الحديث مع الناس، فالبعض يعتمد على المقاييس المادية البحتة كالقول مثلاً كم مات من يهود وكم مات منا، وكم دُمر من بيوتهم وكم دُمر من بيوتنا وهكذا، فهذا ليس مقياساً صحيحاً أصلاً لأنه لا يستند إلى العقيدة  بل يستند إلى من يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون، وبالتالي لا يجوز اعتماده كمقياس للنصر أو الهزيمة، فيكفي قول الله تعالى:" وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا "، وقوله تعالى: "وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ"، فماذا نقول كذلك لأصحاب الأخدود الذين أبيدوا عن بكرة أبيهم، بالقطع هم لم ينهزموا بل انتصروا نصراً مبيناً لأنهم ماتوا ثابتين على مبدئهم، وغزوة الأحزاب؛ ماذا كان نصر المؤمنين فيها سوى اندحار أحزاب الكفر وتحطم أهدافهم أمام خندق النبي وأصحابه، وماذا نقول لأحمد بن حنبل وابن تيمية وغيرهم من حملة الدعوة الذين تحملوا الأذى في سبيل الحق الذي اعتنقوه، ماذا نقول لسيد قطب ولحملة الدعوة الذين استشهدوا في أوزبكستان على يد كريموف.

 

ثانيا: إن فتية آمنوا بربهم من أهل غزة محاصرون، قليلو العدد لا يملكون من العدة والعتاد معشار ما يملكه كيان يهود، ليس لديهم طائرات، ولا دبابات، ولا مدافع، ولا صواريخ ذكية، ولا قنابل فسفورية، أو غيرها من الأسلحة الفتاكة، ورغم ذلك استطاعوا أن يثبتوا أمام جيش يهود الذي أوهمنا حكام المسلمين أنه لا يقهر، بل لقد تصدوا له وقاتلوه وقاموا بعمليات نوعية في الداخل فاجأت العدو فشهد لها العدو قبل الصديق، وذلك كله بعدتهم القليلة وأساليبهم البسيطة فأدموه وأوجعوه وأوقعوا فيه خسائر في الأرواح أجبرت كيان يهود على الاعتراف ببعضها، أما داخل الكيان فقد ألجأت غزة مواطنيه على الفرار والاختباء في ملاجئهم كالفئران، هذه ثلة من مجاهدي غزة فعلت بيهود ما فعلت، فكيف لو تدخلت دول الطوق، وحركت جيوشها الرابضة في ثكناتها لمقاتلة يهود، أكان بمقدور جيش يهود أن يصمد أمامهم ساعة من نهار!!!

 

إن الأمة الإسلامية بذلك تدرك جهوزية جيوشها وقدراتها العسكرية وتتيقن من عقيدتها القتالية التي عندما تتصل بعقيدتها الإسلامية فلن تفقد الأمل بالنصر لأن الله أخذ على نفسه عدا أن ينصر دينه وعباده المخلصين، قال تعالى (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)،  وعندها يصبح تسيير الجيوش لإزالة كيان يهود من الوجود، أمرٌ في متناول الأمة الإسلامية وواقعا محسوساً، فكيفَ وهو فرض شرعي عليها، وبالتالي لا يصح لمسلم أن يفكر في قضية فلسطين إلا على هذا الأساس، أي إزالة كيان اليهود من الوجود، وأن الجهاد هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وأن ما حدث في غزة يدلل على ذلك.

 

ثالثا: جاءت غزة بمشاهد اختزلت ثقافة أمة مستعدة للتضحية وتعيد لأبناء الأمة الأمل بأنكم تستطيعون التغيير، تضحية تجسدت في مواقف الرجال والنساء والأطفال الخارجين من تحت القصف رافعين رؤوسهم مُتَحَدين، تجسدت في وداع أب لأبنائه الشباب واحتسابهم عند الله شهداء... في صبر امرأة لم يتبق لها من أبنائها الستة أحد، في شموخ رجل فقد عائلته وبيته في قصف بعد تأديتهم لصلاة الفجر جماعة في منزلهم...في عيون طفلة لم يجرؤ أحد على البوح لها بموت عائلتها ...في عزة أب وقف يرثي ابنه الاستشهادي، في إباء امرأة لم تعرف أين بيتها من هول الدمار..صارخة "سنبني من جديد ولكننا لن نهزم ولن نرفع الراية البيضاء" أمة رأت الآن أسوداً... يقتحمون الثكنات فيهرب أمامهم جنود جيش احتل الأرض المباركة ولا يزال، أسودا... بعضهم صبر في الأنفاق شهراً ليخرج حامداً الله على السلامة ومواصلاً طريق الجهاد في سبيل الله،  هذه مشاهد تجسد عزة افتقدتها الأمة.

 

رابعا: إذا كانت فصائل مقاومة صغيرة في منطقة محاصرة قادرة على إيقاع ضربات مؤلمة بكيان يهود، أو إجباره على وقف إطلاق النار، فلماذا إذن لا تطالب جيوش دول الطوق وعلى رأسها مصر الدولة الأقرب بالتحرُّك لاستئصال كيان يهود؟، بل لماذا نجد حكومة مصر (وغيرها من الدول العربية) تُحجم عن ذكر تحريك الجيوش؟، والجواب هو أن قضيّة فلسطين تصنف على أنّها قضيّة للفلسطينيين وحدهم وهذا خذلان لها إن لم يكن خيانة، فقد أُوكلت القضية من خلال إنشاء منظَّمة التحرير وما تبعها من منظَّمات مقاوِمة إلى الحلقة الأضعف في الأمّة، وهم أهل فلسطين العزل والمنكوبون، وأُعفيت الجيوش المحيطة بالأرض المحتلّة من هذه المهمّة المقدّسة المنوطة شرعًا بالأمّة الإسلامية، ولا سيّما الأقطار المجاورة للأرض المحتلّة، ولذلك كان على الأمة أن تخرج من عباءة الوطنية وترجع إلى الإسلام حتى تعود فلسطين قضية إسلامية وليست قضية فلسطينية، أما السلطة عندنا وغيرها من الحركات والتنظيمات فلا نجدها البته تُخاطِب الجيوش لتقوم بواجبها، بل نسمعها أحيانا تقول صراحة للأنظمة، لا نريد منكم تحريك الجيوش، بل نريد دعماً مادياً وسياسياً، ونجد السلطة بدلا من ذلك تطالب بالحماية الدولية، إن هذا لشيءٌ عجيب غريب!!!، ولكن يزول العجب والاستغراب عندما نعلم أنهم يفكرون على أساس الوطنية، ولذلك على الحركات والتنظيمات أن تخرج من تحت عباءة الوطنية وعباءة الحكام، وأن تحملهم بعبارات صريحة مسئولية تحرير فلسطين من رجس يهود، وأن تخاطب كذلك الجيوش وتُحمِّلهم هذه المسئولية، فإن لم تفعل، فإن الله سيسألها عن تضييع هذه الأمانة، لأنه لا خلاف أن قضية فلسطين قضية كل المسلمين، ولا خلاف أن فلسطين لا تحررها تنظيمات بل تحررها جيوش جرارة تستأصل كيان يهود، وهذا يقتضي أن يكون مطلب كل أهل فلسطين في كل وقت وحين، أن تنصرهم جيوش المسلمين، فهي والمجاهدون بإذن الله من سيضربون كيان يهود الضربة القاضية، ولنتذكر ولنذكر المسلمين دائمًا أنّ فاتح فلسطين الأوّل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم يكن فلسطينيًّا، وأنّ السلطان صلاح الدين الأيوبي محرِّر بيت المقدس من الفرنجة المحتلّين لم يكن فلسطينيًّا ولا عربيًّا، وأنّ خليفة المسلمين السلطان عبد الحميد الثاني الذي حافظ على فلسطين وحماها من المؤامرة الصهيونية ورفض بيعها بقناطير الذهب لم يكن أيضًا فلسطينيًا ولا عربيًّا، ولكنّهم كانوا جميعًا قادة مؤمنين عبّروا عن أُمّتهم حقّ التعبير وكان وليّهم الله ورسوله والذين آمنوا، لا كحكّام هذا الزمان الذين أخلصوا الولاء لأميركا والغرب وحلفائهم من اليهود. فالتاريخ يُثبت فضلاً عن نصوص الشرع أنّ هذه الأمّة حين كانت تواجه أعداءها بوصفها أمّة إسلامية لا بأوصاف قومية أو وطنية أو غيرها، وتحت راية الإسلام، كانت الغلبة دائمًا لها، وفاءً من الله تعالى لها بوعده: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

 

خامسا: إن كل ما سبق يجسد حقيقة ساطعة كالشمس في رابعة النهار وهي: لو كان للأمة الإسلامية قيادة مخلصة نابعة من ذاتها لما تمكن هذا الكيان المسخ من البقاء، ولهذا قامت دول الاستعمار بتفتيت الأمة الإسلامية إلى عشرات من الكيانات الهزيلة ثم نصبت على المسلمين حكاماً، فلا شيء يفسر إجرام كيان يهود المستمر يومياً وتحديهم لأمة الإسلام إلا تخاذل وخيانة الحكام الذين لا يرقبون في المؤمنين إلا ولا ذمة، ديدنهم وشغلهم الشاغل خدمة مصالح أسيادهم في الغرب وقمع حركة الأمة للعودة إلى شريعة ربها وأحكام دينها. مما جرأ يهود على العدوان على غزة مرة تلو الأخرى والحبل على الجرار!.

فعدم وجود قيادة مخلصة تتخذ قراراً بالحرب يكيل ليهود الصاع صاعين، وذلك عبر إقامة الخلافة التي تجمع شمل الأمّة وتعيد هويّتها بإعادة السيادة للشرع والسلطان للأمّة، وتطرد النفوذ الغربي من البلاد، وتمسك بعوامل القوّة الكامنة فيها، لتحريكها باتجاه تحرير فلسطين وسائر البلاد المحتلّة، وليس ذلك وحسب بل كذلك لمعالجة المشكلات المتشابكة والمعقّدة الناشئة عن شلل الإرادة والقرار في الأمّة طوال قرن من الزمان، وهذا لن يكون إلا بالخلافة والتي هي التجسيد العملي السياسي لوحدة المسلمين، فقد جاء في الحديث: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ»، وتجسد كذلك أن المسلمين جسد واحد «إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» ومن هنا كان على أهل فلسطين بل المسلمين جميعاً أن تلهج ألسنتهم بالدعاء قائلين: اللهم اجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً.

 

سادسا: لم تكن جرائم يهود في عتمة من الليل، بل أشهدوا على أنفسهم الدنيا، ولم يتركوا جريمة إﻻ ارتكبوها، ففي كل بيت وثائق جرائمهم مصورة ومكتوبة، إن هذا التاريخ الأسود ليهود كفيل بتدمير الصورة المعنوية للكيان اليهودي في أعين العالم، وهو يمكن أن يسهم – من الناحية السياسية العالمية- في تقبل بعض دول العالم إزالة هذا الكيان من الوجود نهائياً عندما تتخذ الأمة الإسلامية قرار الحرب الجهادية التي تخلع هذا الكيان من جذوره.

نعم إن كشف جرائم اليهود عالمياً يمكن أن يكون خطاباً مناسباً عندما يترافق مع حرب التحرير لإنهاء الاحتلال عن كل فلسطين، بحيث يكون العالم قد مل من وحشية هذا الكيان، وما ارتكب من جرائم ضد الإنسانية، فيتقبل فكرة إنهاء الكيان اليهودي والخلاص من شروره.

لكن الإشكالية السياسية (إن لم نقل الجريمة الإعلامية) تكمن في أي محاولة للتموضع في موقف الضحية أمام العدوان اليهودي من أجل استدرار عطف العالم حتى "يلتفت لحق الشعب الفلسطيني"، وذلك عندما يقتصر الإعلام العربي على تعداد الشهداء وعلى نقل أشلاء الأطفال دون دفع الأمة نحو واجبها الجهادي، بل عندما تصبح أشلاء الأطفال ورقة سياسية وإعلامية من أجل تحريك المحافل الدولية نحو تفعيل الحلول السياسية (السلمية)، التي ثبت فشلها بعد بطلانها السياسي والعقدي.

إن تاريخ الموقف الدولي تجاه "إسرائيل" يثبت بطلان هذا النهج السياسي والإعلامي، فقد تجاهل مجلس الأمن الدولي جرائم اليهود بل كافأهم بشرعنة كيانهم، ثم وفرت أمريكا عباءتها لستر عورات اليهود في المحافل الدولية.

 

سابعا:  إنه من العار والإجرام، بعد كل هذه الوقائع، وبعد معرفة حكم الله في كيان اليهود، أن نسلم أمرنا لمن يدعو إلى المفاوضات مع هذا الكيان الغاصب، فعباس صرح بأنه ضد العمل المسلح، وتعهد بمنع انتفاضة جديدة على يهود، وقال إن تنسيقه اﻷمني مع يهود مقدس، وإن حكومته ستعترف بيهود وبكل الاتفاقيات الدولية، عباس ألزم حماس بوثيقة الجنايات الدولية، فوقعوا على وثيقة محاكمة المقاتلين وإعدامهم، إنّ مسيرة المفاوضات التي انطلقت منذ سنين طوال مع كيان يهود المحتلّ من أجل الوصول إلى تسوية معه وإلى إحلال السلام مكان حالة الحرب هي عين الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، إذ هي مؤسَّسة على الإقرار بحقّ هذا الكيان بالوجود على أرض فلسطين ولو على جزء منها، بل هي اعتراف له بالأراضي التي أقرّته عليها القرارات الدولية المتعاقبة، وهي الأراضي التي تُشكِّل حوالي 85% من فلسطين المحتلّة، والتي باتت دولُ العالم - بما فيها الكثير من دول العالم الإسلامي - تسمّيها (إسرائيل)،  إنّ تاريخ المفاوضات يثبت فعليًّا وبما لا يدع مجالًا للشكّ أنّ الإرادة الدولية وإرادة كيان يهود اجتمعتا على جعل المفاوضات وسيلة لاستنزاف قوى أهل فلسطين وإهدار طاقاتهم وصرف تفكيرهم عن الصراع المصيري لتحرير الأرض من رجس يهود إلى مساومات تفصيلية تتعلّق بمطالب آنية ومعاشية يومية، ما أدّى إلى تحوُّل العدوّ الأساسي الذي يرعى كيان يهود - وهو النظام الدولي ومعه وكلاؤه من حكّام المسلمين - إلى وسيط يُركَن إليه ليكون حَكَمًا بين الضحية والجلّاد، وأقرب مثال على ذلك الركونُ هذه الأيام وبعد العدوان الإجرامي على غزّة الذبيحة إلى النظام الخائن العميل في مصر الذي لطالما كان الشريك الأكبر في الحصار المضروب على أهل غزّة، ليكون وسيطًا بين السلطة الفلسطينية الائتلافية وكيان يهود، مع أنّ الشرع - فضلًا عن الواقع المحسوس - يفرض أن يُتّخذ هذا النظام عدوًّا بوصفه أحد المتواطئين مع كيان يهود ورعاته الدوليين. قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾، أليس مما يندى له الجبين أن تكون مصر وسيطا بين عدو غاصب للأرض مستبيحاً للدماء والأعراض ومجاهدين يذودون عن النفس والعرض والأرض، وكأن دماء المسلمين التي سفحت تتساوى مع دماء يهود، وكأن الأرض التي احتلت ليست الأرض المباركة، والأنكى من هذا تكون مصر "ضامناً" للاتفاق... ألا يعني هذا الضمان أن تكون مصر في المستقبل حامية لدماء اليهود الغاصبين حافظة لكيانهم.

 

ثامنا: إن طلب الحماية الدولية في وقت انخرست جميع الألسن وصمتت صمت القبور كل المنظمات الدولية والعربية عن جرائم يشيب لها الولدان، هو تآمر على فلسطين وتضليل لا يمكن أن ينطلي على عاقل، فواهمٌ من ظن أن القوات الاستعمارية الدولية تحفل بدماء المسلمين أو تكترث لخراب ديارهم، فعلى العكس، فلقد كانت أداة لقتل المسلمين وتخريب ديارهم كما في فلسطين وأفغانستان وغيرها، وواهم أو مضلل من ظن أن قوات الدول التي تدعم الكيان اليهودي المحتل بالمال والعتاد وتوفر الغطاء السياسي لجرائمه ستكون سنداً أو برداً وسلاماً على أهل فلسطين!، إن طلب السلطة الحماية الدولية من هؤلاء المستعمرين هو سعيٌ لتكريس احتلال الأرض المباركة واستبدال احتلال بآخر، وهو تكريس لسعي السلطة لسلخ فلسطين عن عمقها وامتدادها الإسلامي، وهو سعي لخراب فلسطين على أيدي الصليبيين الجدد، بل إنها تسفر عن غايتها الرامية لاستغلال تلك الدماء التي تسيل في غزة، وتنفيذ المشروع الأمريكي للمنطقة المسمى بحل الدولتين!. وهو من قبل ومن بعد معصية لله تعالى القائل: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾، فغزة وفلسطين لا تتطلع لحماية بان كي مون أو أوباما أو هولاند أو كاميرون، ولا يرون في هؤلاء المستعمرين مخلصين، بل تتطلع لصنو الفاروق وصلاح الدين، قادة يخرجون من بين ظهرانيها، يحركون جيوشهم لتحرير الأرض المباركة فيلقنون يهود ومن تآمر معهم درساً ينسيهم وساوس الشياطين، ويقتلعون كيانهم من فلسطين من جذوره.

 

تاسعا: إننا ننصح أهلنا أهل فلسطين والمجاهدين خاصة بأخذ الحيطة والحذر، وألا يركنوا لهدنة ولا لأنظمة ظالمة، وأن يوطدوا أنفسهم على عدم الاعتراف بكيان يهود ومحاسبة من يقوم بذلك، وأن يكون سقف مطالبهم تحرير فلسطين كل فلسطين، ولا يرددوا عبارة  "دولة فلسطينية" وقصدهم على حدود 67، وليعلموا أن دماء أهل غزة لن تنصرها دموع، مساعدات، وفود التعزية، حفنة دولارات، ولا وساطة ذوي القربى، فكلها لا تتعدى جعجعات إعلامية وأفعال تجميلية، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تنصر ثكالى ونساء وشيوخ وأطفال ورجال عزل، عندما يقصفهم طيران الاحتلال مختبراً عليهم أنواعاً جديدة من الأسلحة والصواريخ، لقد اشتركت المنظَّمات الفلسطينية كلُّها بالخطيئة حين جعلت سقف مطالبها من الأقطار المجاورة الدعم والتعاطف والمؤازرة والإيواء، فهي بذلك رضيت باستقالة دول الطوق والجوار من مسؤوليّتها عن تحرير فلسطين، كما ساهمت في عزلتها حين ربطت سياساتها ببعض الأنظمة، فكانت تحالفاتها في كثير من الأحيان تسير في خطّ معاكس مع قضايا الأمة في المنطقة، وذلك حين تحالفت مع أنظمة معادية للإسلام وأمّته، فمن المفارقات العجيبة التي لطالما طٌلِب منّا أن نستسيغها أن تكون المقاومة حليفة لأنظمة عميلة وخائنة لله ولرسوله وللمؤمنين كالنظامين السوري والإيراني في السنوات الأخيرة وكالنظامين العراقي والأردني من قبل...

 

إن الجهاد ضد يهود وصد عدوانهم عمل مبارك، ونريد توظيف ما حصل من أجل ترسيخ فكرة تحرير فلسطين من خلال الجيوش، وليعلم كذلك أن مباركة هذا الجهاد لا تعني غض الطرف عن السقوط في وحل المشاريع والمكائد الغربية، ولا تعني كذلك مدح من يحاولون استثمار العمل الجهادي، مع البقاء ضمن حدود الهزيمة الثقافية أمام الغرب وحضارته.

 

وهنا تتجلى ضرورة الوعي السياسي، الذي يوجب على المجاهدين أن ينظروا لقضية فلسطين وأن يقوّموها من زاوية واحدة، وهي زاوية الأمة وعقيدتها وثقافتها، ولا يمكن أن يجتمع الوعي السياسي مع قبول التدخل الغربي لحل قضية فلسطين، ولا يمكن أن ينجح قتال ضد يهود إذا تبنى المقاتلون أو السياسيون منهم مشاريع الغرب الكافر وبخاصة ما يسمونها قرارات الشرعية الدولية.

وهذا الوعي السياسي سياج يحمي المجاهدين من الوقوع في المكيدة التي مررت باسم "الثورة الفلسطينية" حيث تم تجييرها إلى سلطة هزيلة تحارب من يقاتل يهود بعدما انغمست في أحضان الغرب الكافر، وبعدما تبنت برامجه السياسية.

 

وخلاصة القول أن الاتصالات مع الحكومات الغربية هي تبعية سياسية، وقبول الحلول الفكرية الغربية هي هزيمة ثقافية، والركون إلى الظالمين هو خذلان وخسران وترسيخ للتبعية، وتقرير هذه الحقيقة لا يخضع للمجاملة مع المجاهدين الأبطال، وهو لا ينتقص من نشوة المجاهدين الأحرار الذين تصدوا لعدوان يهود على غزة، ولا ينال من مشاعرهم، بل هي صرخة تحذيرية لمن يطلب شهادة حسن سلوك من الغرب، ومن يفتح له حجرة المجاهدين ليعبث بها، أو لمن يجعل جل همه المكاسب، كالمشاركة في "منظمة التحرير"، أو المشاركة كذلك في بناء دولة وطنية ديمقراطية تحت مسمى الوحدة الوطنية على حساب الأحكام الشرعية، وكل ذلك لا يصيب أيٌ منها كبد الحقيقة وأس الداء في أن يهود كيان باطل اغتصب فلسطين لا مجال لبقائه أو التعايش معه.

لذا يتحتم علينا نحن حملة الدعوة الإسلامية أن نتحلى بالوعي السياسي فنخوض النضال بشكل عقائدي ضد جميع الاتجاهات التي تناقض اتجاه الإسلام، وضد جميع المفاهيم التي تخالف مفاهيم الإسلام، في الوقت الذي نخوض فيه النضال لتركيز مفاهيمنا وغرس اتجاهاتنا الإسلامية لأن أحدهما لا ينفصل عن الآخر في النضال قيد شعرة، حتى نوجد الوعي السياسي عند غالبية الأمة، وبدون الوعي السياسي لا يُضمن سير الأمة مع حملة الدعوة الذين يكافحون الكفر وأعوانه، ولأنه بدون الوعي السياسي تزداد حالة الأمة سوءاً، وتنقطع بها الأسباب للنهضة والرقي، وفقنا الله والمسلمين جميعا لإقامة الخلافة التي فيها خير الدنيا والآخرة، جعلنا الله وإياكم من جنودها وشهودها، وما ذلك على الله بعزيز.

 

9-9-2014