غزة تفتح موسم الثورات من جديد

د. مصعب ابو عرقوب

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

 

قد تخلو ميادين التحرير من الثوار لبرهة  ، وقد يصاب البعض بالإحباط واليأس من إفرازات الربيع العربي ..فيرجع إلى بيته ليجلس الساعات الطوال أمام فضائيات ووسائل إعلام لم يعد يثق بأي كلمة تقولها, وقد يهاجر بعض أبناء الأمة المخلصين من بلادهم..ليتركوا البلاد للبلطجية والشبيحة ..وقد يستسلم البعض أمام علو موجة الثورة المضادة....، ويعود آخرون لمزاولة حياتهم الروتينية التي اعتادوا عليها قبل الربيع العربي.

ربيع أخرج الصامتين يوما إلى ميادين التحرير ورفع رؤوساً لطالما نكست أمام بلطجية  الشرطة و شبيحة المخابرات ،، ربيع حرك في الأمة آمال تحرير المقدسات واستعادة الأرض المباركة ،، وفتح آفاق المستقبل لشباب ثائر على شيخوخة الاستعمار والذل والتبعية التي عاشت الأمة فيها لعقود.

عقود ناضلت فيها أجيال ونخب لم تصمت  .....فهرمت إلى أن رأت تلك الحشود تنزل الميادين منادية بسقوط النظام لتخرج كلمات ذلك الثائر معبرة عن مرحلة شاقة من حياة الأمة.... "هرمنا من اجل هذه اللحظة التاريخية".

لحظة لم تكن لتولد إلا بعد مخاض عسير وألم كبير وبركان كان يحتشد..ينضغط.. يتعاظم تحت قشرة الرضى الزائف والصمت الخادع والانكسار المتوهم ، لكن الشعوب الثائرة خرجت دون الالتفات إلى التفاصيل ودون تحمل أعباء التخطيط  وأوكلت أمرها إلى "أوساط سياسية ملوثة" ارتبطت عضويا بالأنظمة السابقة ممارسة وفكرا وتصورا وتبعية متوارثة عن الأنظمة البائدة  للغرب المستعمر ومشاريعه.

غرب استعماري استثمر في عملائه المخضرمين ليعتلوا سدة الحكم من جديد ويقودوا ثورة مضادة لثورة الشعوب للحفاظ على مصالحهم ونفوذهم في بلادنا ، فكان له ما أراد في بعض الدول ... وأوغل في دماء الأمة في تلك البلاد التي لم يستطع إخضاعها بالسياسة والدهاء فقتل عشرات الآلاف على يد نظام الأسد في محاولة يائسة لاستعادة نفوذه في منطقة لم يجد فيها إلا الآن بديلا لنظام تهالك خلف آلة القتل الاستعمارية دون جدوى ودون إرجاع الناس إلى بيوتهم كما في مصر وتونس واليمن..فازداد القتل والمكر الاستعماري لدفع الناس ثانية إلى بيوتهم وحشرهم في تفصيلات حياتهم اليومية التي عقدها الاستعمار وأذنابه  في كل جزئية.

ومع عودة الكثيرين إلى بيوتهم وانغماسهم من جديد في حياتهم الشخصية وانكسار بعضهم ونفاد صبر آخرين  وتكسر آمال شريحة عريضة أخرى وفي لحظة بدأت فلول الأنظمة الساقطة بالتقاط أنفاسها  وظن أهل الثورة  أنهم قد سحقوا...

جاءت غزة مرة أخرى ...لتصنع الأمل وتقف من بين الركام رافعة الرأس ..تلتفت إلى تلك الجموع الهاربة من مسئولياتها والمنكسرة أمام أول عقبة من عقبات التغيير الجذري لتصرخ فيهم....عودوا إلى رشدكم عودوا إلى ارض المعركة ... تستطيعون التغيير ولن يحمل عبء تغيير واقعكم إلا انتم ...لا تتراجعوا ..ارفعوا رؤوسكم من جديد المعركة لم تنته بعد.. أنتم من اقتلع ابن على ومبارك والقذافي وصالح في أوج طغيانهم وأنتم من سيقتلع كل أذنابهم وأشياعهم من جديد ..لا تعولوا إلا على أنفسكم.. فلن تجدوا سلما شخصيا وحياة طبيعية أبدا... وانتم محاصرون حاضرا ومستقبلا بالاستعمار وأذنابه...صرخات غزة تلك ترددت في وعي أبناء الأمة عبر صور يومية ومشاهد اختزلت ثقافة امة مستعدة للتضحية.

تضحية تجسدت في مواقف الرجال والنساء والأطفال الخارجين من تحت القصف رافعي الرؤوس مُتَحَدين ، تجسدت في وداع أب لأبنائه الشباب واحتسابهم عند الله شهداء... في صبر امرأة لم يتبق لها من أبنائها الستة احد، في شموخ رجل فقد عائلته وبيته في قصف بعد تأديتهم لصلاة الفجر جماعة في منزلهم...في عيون طفلة لم يجرؤ احد على البوح لها بموت عائلتها ...في عزة أب وقف يرثي ابنه الاستشهادي ، في إباء امرأة لم تعرف أين بيتها من هول الدمار ..صارخة "سنبني من جديد ولكننا لن نهزم ولن نرفع الراية البيضاء" في مشهد يجسد عزة افتقدتها الأمة.

عزة تلألأت في أعقاب صواريخ "بدائية" أخضعت بعبعا من ورق روجت له أنظمة دول الطوق وضخمت قوته  ...فارتكس كيان يهود وعاد إلى حجمه الطبيعي في لقطة حية أمام أعين أبناء الأمة الإسلامية.

أمة رأت الآن أسودا... يقتحمون الثكنات فيهرب أمامهم جنود جيش احتل الأرض المباركة ولا يزال ، اسودا... لم ينتظروا عقودا ليرجحوا موازيين القوى الموهومة ...بعضهم صبر في الأنفاق شهرا ليخرج حامدا الله على السلامة ومواصلا طريق الجهاد والمقاومة ......مشهد يعيد للأمة تلك اللحظة التاريخية.

لحظة اعتصمت فيها الجماهير في ميادين التحرير لأسابيع مطالبة بإسقاط النظام...ها هم أبطال غزة يمكثون شهرا في الأنفاق..هاهم أهل فلسطين وغزة تحت الاحتلال والعذاب والقصف والحصار..لكنهم لم ينكسروا ولم يعودوا القهقرى ..بل عادوا......عادوا أقوى واشد ليرسموا للأمة طريق التغيير، صبر.. واحتمال وتحمل وتشبث بالمعنى الحقيقي للحياة والموت... للعزة والتضحية واستشراف المستقبل.

فالمستقبل لا يشرق إلا بالتضحيات ، وواقع الأمة لن يتغير إلا إذا بذلت الغالي والنفيس في سبيل النهضة وتفعيل مشروعها الحضاري المتمثل في إقامة الخلافة الراشدة التي تجمع الأمة في كيان سياسي واحد يلم شتاتها ويحطم حدود سايكس بيكو اللعينة ويحرر الأرض ويستعيد المقدسات والأرض المباركة وما احتل من بلاد المسلمين ويستعيد ثروات الأمة المنهوبة ، ولن يكون ذلك إلا إذا واصلت الأمة ثورتها وعادت تلك النخب المخلصة  التي غادرت ميادين التحرير إلى مكانها في الثورة.

فالثورة تحتاج إلى كل أبناء الأمة وانكفاء بعض النخب المخلصة من أبناء الأمة على حياتهم الشخصية عقد مهمة التغيير وقلل من حرارة الحراك الثوري في الميادين، فعندما اقفل الطبيب على نفسه عيادته والمهندس مكتبه والتاجر محله واعتكف المثقف والأكاديمي والعالم بين الكتب  ..وصل أبناء تكساس و شذاذ الأفاق  إلى عاصمة الرشيد واحتلوها ،، وصعد البلاطجة والشبيحة وعصابات الاستعمار إلى سدة الحكم  ليحكموا  خير امة أخرجت للناس.

أمة باتت تدرك أن حياة أبنائها الشخصية يتحكم بها الاستعمار وأذنابه ، فالأمر لم يقتصر على احتلال الأرض ونهب الثروات فقط ،  فالأنظمة  التي تحافظ على مصالح الاستعمار لا تتجذر إلا بزرع ثقافة استعمارية تضمن العبودية والخضوع للمستعمر ، فالعلمانية والديمقراطية أصبحتا حصان طروادة للمستعمر يضمن بهما وجوده ونفوذه في بلادنا ...فلباس البنت أو الزوجة والأخت والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكل تفاصيل حياتنا ستصاغ على هوى المستعمرين الغربيين إن لم تتحرك النخب المخلصة للتغيير الجذري فتضحي وتتقدم الصفوف وتقود الأمة.

أمة آن لها أن تلتقط رسالة غزة في التضحية والإصرار والتعلق بالعقيدة ومعنى الحياة الحقيقي في الثقافة الإسلامية...  ونخب آن لهم آن يدركوا أن لا مستقبل لهم ولا لأولادهم إلا إذا عادوا ليضطلعوا بالعمل الحقيقي الذي أوجبه الله عليهم ، ولينخرطوا بكل قوة في  العمل لنهضة الأمة وانتزاع سلطانها المسلوب وإقامة دولة الخلافة الراشدة التي تعيد الأمة إلى عرش عزتها وتحمل الإسلام رسالة نور وهداية للعالم والى أن يكون ذلك فان على الثورة أن تستمر.

 

22-8-2014