الدكتور ماهر الجعبري عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير - فلسطين
لم يكن غريبا أن تتصّدر الأوضاع الباكستانية اهتمام ثلاثة من كبريات الصحف البريطانية خلال الأسبوع الماضي (11/4/2009)، وأن تشترك في إطلاق صفارات إنذار مفادها أن هنالك مخاوف من جيل معاد للغرب في باكستان. ومع أنّ تزاحم المصالح الأمريكية والأوروبية (وخصوصا البريطانية) في باكستان هو على أوجه، وأن الإعلام البريطاني حريص على إثارة المشاكل لمشاريع أمريكا في المنطقة،
وربما يبدو هذا البعد أكثر وضوحا في تغطية صحيفة ذي غارديان التي جاءت تحت عنوان "لعبة اللوم بين لندن وإسلام آباد حيال الإجراءات الأمنية قد بدأت"، إلا أن هذه الإثارة الإعلامية للمخاوف تبرز جدية الحالة الباكستانية وخطورتها: فقد نقلت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية يوم السبت 11/4/2009 أن باكستان اليوم تبقى أكبر تهديد لأمن الغرب. فيما نقلت صحيفة ذي إندبندنت البريطانية في افتتاحيتها التي جاءت تحت عنوان "أمن بريطانيا رهن بكبح الإرهاب في باكستان": "لا بد من الوصول إلى جذور المشكلة وهي التطرف والإرهاب في باكستان ... لن نتمكن من توفير الحماية لشوارع بريطانيا طالما أن للتطرف قاعدة في باكستان".
وكانت أمريكا –حسب تصريحات المبعوث الأمريكي إلى أفغانستان وباكستان ريتشارد هولبروك - قد أبدت القلق بشأن قرار الرئيس الباكستاني بالتوقيع على اتفاق لفرض تطبيق الشريعة الإسلامية بوادي سوات شمال غرب البلاد لإنهاء أعمال العنف بالمنطقة.
إذاً، من الواضح أن الباكستان والإسلام السياسي والجهادي فيها تتصدر الأولويات الغربية فيما تسمّى "الحرب على الإرهاب"، والتي تعرفها أدبيات الإسلام السياسي بأنها تعني "الحرب على الإسلام". ولذلك أدرج الرئيس الأمريكي باراك اوباما باكستان في صلب إستراتيجيته لجنوب آسيا.
وفيما اتضحت معالم إستراتيجية اوباما العسكرية في أفغانستان القائمة على حشد مزيد من القوات ودعوة حلف الناتو إلى حشد مزيد من المقاتلين، يتضح من خلال مؤتمر المانحين لباكستان الذي عقد في طوكيو الجمعة 17/4/2009، البعد الآخر للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، والمستندة إلى تسخير التنمية والتمويل في مواجهة الإسلام السياسي في باكستان، وهو الذي يمثل تربة خصبة – حسب التقارير الإستراتيجية الأمريكية- لنمو الأعمال العسكرية ضد الوجود الأمريكي، وفي إشعال المقاومة ضد مشاريع أمريكا في المنطقة، حتى أن بعض الدراسات الإستراتيجية قد اعتبرت الإسلام السياسي المنادي بتطبيق الخلافة بمثابة الحزام الناقل للجهاديين الذين يعبرون من خلاله للأعمال العسكرية. وسواء كان ذلك الإدعاء على الحقيقة أم من أجل تبرير استهداف الإسلام السياسي ضمن الحرب على الإرهاب، فمن الواضح أن المواجهة مع الغرب تشمل البعدين معا.
إذًا، يبدو أن حكومة اوباما ستركّز على التنمية لمواجهة انتشار الإسلام السياسي والجهادي المعادي لأمريكا والغرب عموما، في موازاة استنادها للحرب العسكرية في مواجهة المقاومة المسلحة. وهذا استدراك واستكمال للسياسات السابقة التي ركزت على الأعمال العسكرية.
وقد جاء الحث على التركيز على تحسين الجوانب الاجتماعية وتطوير النواحي الاقتصادية ضمن العديد من التوصيات التي صدرت خلال إدارة بوش من مراكز الاستراتيجيات في أمريكا، فمثلا ذكرت نشرة الجديد في محاربة الإرهاب (Update on the War of Terror) التي تضمنت نتائج لقاء حصل في مركز نيكسون بتاريخ 7/7/2005، إثر تفجيرات لندن، لتدارس الوضع في باكستان: "أن الجماعات "المتطرفة في باكستان تمثل تحديا لأمريكا والحكومة الباكستانية"، وأنه من "أجل مواجهة فعّالة لهذه الجماعات، فلا بد من جلب مناطق "القبائل" نحو تيار الوسط للمجتمع الباكستاني. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف، فإنه لا بد من تحقيق الأمن من خلال هزيمة طالبان، ومن ثم لا بد من جذب أو "إغراء" مناطق القبائل من خلال منحهم مشاريع سياسية أو اجتماعية من التي يحددونها، مع التنمية المطلوبة من خلال تطبيق مشروعات "الإغراء" هذه، والتي تتضمن بنية تحتية وتنمية اقتصادية".
وهذا بالضبط ما يدور حوله مؤتمر المانحين الذي عقد في طوكيو، حيث يتعامل مع نفس الأدوات الموصى بها سابقا من أجل تحقيق نفس الأهداف. أي أن أمريكا تعمل اليوم على إغراء الشعب الباكستاني بالأموال من أجل صرفه عن الإسلام السياسي والجهادي، كما عملت على إغراء الفلسطينيين بالأموال من أجل الحصول على مواقف الاعتراف بدولة الاحتلال. مما يبرز توافق السياق السياسي لمؤتمر مانحي باكستان مع مؤتمر المانحين الذي عقد في باريس بعد مؤتمر خريف أنابوليس 2007 الذي خصص للتطبيع الرسمي مع دولة الاحتلال. وبالتالي صارت شعوب الأمة الإسلامية تدرك بكل وضوح أن الأموال المقدمة من الجهات المانحة هي دائما أثمان سياسية للوصول إلى مصالح سياسية يحددها المانح.
وفي المقابل، تدرك القوى العالمية ضرورة محاصرة الإسلام السياسي والجهادي، ولذلك استجابت دول أوروبا واليابان ودول عربية وإيران لحضور مؤتمر المانحين لباكستان، كما استجابت الدول لمؤتمر باريس، وتعهدت بالمشاركة في التمويل، فتعهدت 27 دولة و16 منظمة بتقديم مساعدات لباكستان بقيمة تتجاوز 5 مليارات دولار على شكل هبات أو قروض، وتعهدت كل من الولايات المتحدة واليابان بتقديم مليار دولار لكل منهما على مدى عامين، وتعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم 640 مليون دولار.
وقد جاء ذلك بعدما وعد الرئيس الباكستاني في كلمته أمام المؤتمر بأن تقوم الحكومة بدورها في محاربة الإرهاب قائلاً: "نحن مستعدون للقتال، والإرهاب لا يتوقف على حدودنا، وإذا خسرنا خسرتم". وكان رئيس الوزراء الياباني تارو اسو قد شهد للحكومة الباكستانية أنها "لعبت دورا بالغ الأهمية في الجهود التي يبذلها المجتمع الدولي لمكافحة الإرهاب والتطرف". وأوضح أن التمويل "يهدف إلى التنمية من منظور عريض وإشراك بلدان آسيا الوسطى وإيران أيضا".
ويتم توجيه هذا التمويل التنموي في الغالب لمؤسسات مدنية من أجل استقطاب الشعوب إلى برامجها، فقد نقلت وسائل الإعلام أن الأموال التي وعدت بها باكستان ستصرف في دعم برامج مدنية لمكافحة الفقر وخلق فرص للعمل ومساعدة المزارعين وتطوير الأنظمة التربوية والصحية والنقل والطاقة. وقد وثّقت الدراسات الأميركية أن تنفيذ مثل هذه البرامج يأتي في سياق مواجهة انتشار الجماعات الإسلامية الرافضة للغرب: فمثلا جاءت التوصية بتسخير منظمات المجتمع المدني في مواجهة الإسلام السياسي ضمن أطروحات لمؤسسة راند الأمريكية حيث طرح كتاب "العالم الإسلامي بعد 11/9" الذي أصدرته المؤسسة عام 2004، تحت بند "دعم إسلام مدني" جاء فيه (بعد الترجمة): "إن دعم جماعات المجتمع المدني الإسلامي التي تنشر الحداثة والتحديث هو جزء رئيس في سياسة أمريكية فعّالة في العالم الإسلامي. إن إسلام سياسي معتدل يمكن أن يحبط التقبل للحركات الثيوقراطية أو أولئك الذين يفضّلون دول إسلامية شاملة (يعني الخلافة)... وربما أيضا من الواجب على الولايات المتحدة المساعدة في تطوير مؤسسات المجتمع المدني والديمقراطية في المناطق التي لا تواجد فيها حتى الآن."
ليس ثمة شك أن المصالح الغربية لا يمكن أن تُحمى في ظل انتشار الدعوة لتطبيق الإسلام وفي ظل انتشار الأدبيات الجهادية، وليس ثمة شك أن أمريكا التي تعاني من أزمة مالية تهوي بها وتهدد وجودها يمكن أن تنطلق للتنمية في باكستان لولا أن مستوى خطورة الوضع عالية، ومن هنا كانت وسائل الإعلام قد ذكرت أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية روبرت وود قد أكّد (في 14/4/2009) أن الولايات المتحدة تنوي وضع "معايير" لقياس درجة التقدم في باكستان، وبيّن أن هنالك أهدافا أمريكية يجب تحقيقها. وهذه ركيزة من ركائز التمويل الغربي فهو لا يمكن إلا أن يكون تمويلا مشروطا، ومحددا بأجندة المانح: وهل يمكن أن تلتقي أجندة القوى الغربية مع أجندة الأمة الإسلامية؟
إن المتابع السياسي يدرك أن المصالح الغربية لا يمكن أن تلتقي أبدا مع مصالح الأمة، وأن التمويل الغربي -والذي يمثل في حقيقته جزءا يسيرا من أموال الأمة التي نهبها الغرب من المسلمين على مدى عقود- لا يمكن أن يخدم نهضة الأمة باتجاهها الصحيح، وأن التنمية على المقاس الغربي لا تكون إلا في مواجهة نمو الإسلام السياسي والجهادي الذي يقف سدا في مواجهة مشاريع الهيمنة الغربية في المنطقة، وقد آن للأمة أن تستند لمقدراتها ومصادرها، وأن تدير تلك المصادر بعيدا عن إملاءات الغرب، بل فيما يخدم مصالح الأمة الحيوية ونهضتها.
18/4/2009