الدكتور ماهر الجعبري
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
خلال الأيام الماضية، وجّه عشرات من الأكاديميين الفلسطينيين خطابا تحت عنوان "الأكاديميون من اجل الحقوق الفلسطينية" لرؤساء أمريكا وروسيا وفرنسا وبريطانيا، وحمل شعار "نريد التغيير ... نقف متوحدون" (الصحيح متوحدين). وتضمن الخطاب مطالبة "الحكومة الإسرائيلية الجديدة بالانصياع للقرارات الدولية ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية المبنية على أساس إقامة الدولتين"، "ومبادرة السلام العربية المعتمدة من قبل القمة العربية عام 2003".ومع أني شعرت بالاعتزاز، لدى استعراض الأسماء، أن انتميت لمؤسسة أكاديمية لم أجد رئيسها ولا أي نائب من نوابه ضمن قائمة الموقعين، ولكني مع ذلك شعرت بالأسف أن وجدت مجموعة من الزملاء الذين كان بيني وبينهم حوارات بيّنت مضمون ما يحملون قبل أن تكشف هذه الرسالة ظاهر ما تعرب عنه من مواقف.
لذلك ترددت مرارا في كتابة هذا المقال تعقيبا على انزلاق أقدام زملاء أكنّ لهم الاحترام والمحبة، حيث ضمّت القائمة –فيما ضمّت- مجموعة من الأكاديميّين ممن لا أعلم عنهم إقرارا بشرعنة الاحتلال أو الاحتكام إلى الشرعة الدولية الجائرة، أو الوثوق بالأنظمة العربية التي تخلّت عن مسؤولياتها في تحرير فلسطين منذ عهد بعيد. وممن يدركون حق الإدراك أن القوى الدولية هي التي تآمرت على فلسطين، منذ أن أعطت بريطانيا وعد بلفور، ومنذ أن رعت أمريكا بنيان بلفور، وأن فرنسا كانت محور مؤتمر شرم الشيخ الأخير الذي تداعى له المؤتمرون والمتآمرون لمحاصرة سلاح المقاومة، وأن روسيا هي اليوم عرّاب النسخة الجديدة لمؤتمر أنابوليس التطبيعي، والذي سيعقد في موسكو خلال الأشهر القادمة كما هو متوقع. وممن يوقنون أن فلسطين هي نفسها الجغرافيا المقدسة التي تضمنتها آية الإسراء، وليست الجغرافية الرقمية المتضمنة في رقم اثنين ومضاعفه ومثله (242)، مما يخالف قطعا ما أيقنت به جدتي التي توفت العام الماضي دون أن تنهي أي مرحلة دراسية.
ولذلك فلا زلت أميل إلى أن هنالك خطأ ما قد حصل ربما يكون قد ورّط هؤلاء الزملاء في الخروج بموقف لا يعبّر عن مكنونات أنفسهم، وبالتالي فلست بهذا المقال في مقام مهاجمة أشخاصهم، مهما كان مستوى الانزلاق عميقا، ولكن آلمني أن يصدر خطاب متضمّن "ال" التعريف لفئة مهنية أحبها وأنتمي إليها، فأصبح من حقي أن أدق جرس إنذار، كما قد يعتبرن أن من حقهم مخالفة ثوابتهم إن شاءوا متى شاءوا وكيفما شاءوا، فهذا زمن اختلطت في إعلامه حرية التعبير مع ثقافة التغيير، وصار التغيير في الخطاب الإعلامي يعني التكيّف مع المستجدات من خلال تغيير الثوابت، بدل أن يبقى أصيل التعريف في تغيير الوقائع حسب ما تحدده الثوابت. بل إن لفظة الثوابت لفظة اقتحمت ثقافة الأمة في لحظة غفلة عن التعابير الأصيلة من مثل العقائد والأحكام الشرعية.
إذاً، من حقي بل من واجبي أن أرد الظلم الذي وقع على لفظة "الأكاديميين" وأن أبين أن عنونة الخطاب "بال" التعريف قد يتضمن إدعاء تمثيل من لا يمثلِون لمن لم يمثلوا عنهم أحدا في مثل هذا الخطاب، وهذه المطالبات لا شك ظلم للأكاديميين الذي وقفوا رافضين للاحتلال في عكا قبل يطا، والذين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا.
إن المواقف التي تقوم على الاعتراف بدولة احتلال، حتى لو كانت محصورة في قرية تائهة في أقاصي صفد، وحتى لو كان سلاحها عصيّا تُجدَل من قصب بيسان لا مفاعلا نوويا يضطرم في مغتصبة ديمونا، لا يمكّن التوحد حولها مهما حاول السياسيون الرسميون، ومهما طال الحوار "الوطني" أم قصر، ومهما تورّط أكاديميون أم دفعوا عن أنفسهم شبهات السقوط، ولذلك فشعار "التوّحد" خلف مواقف الانبطاح سيكون شعارا متاهفتا لن يصمد حبره أمام "أرِضة" خائرة القوى في "مسافر بني نعيم"، كما لم يصمد حبر وثيقة المقاطعة في شعاب مكة.
إن الكيمياء تقطع بأن الماء لا يرجى من النار، وإن الرياضيات تجزم بأن مجاميع الأصفار تبقى صفرا مهما تلونت تلك الأصفار، وإن الفيزياء تقطع بأن طاقة الشيء من مادته، وإن الوعي يقطع بأن اللغة الوحيدة مع حكومة الحرب في دولة الاحتلال هي التي تكون حروفها من أزيز الرصاص وهدير المدافع وعلى نغمات طبول الحرب.
ثم إن الواقعية لا تعني الانبطاح، بل إن الواقع والتاريخ وبشائر المستقبل كلها تشهد أن بيت أولمرت ونتنياهو وليبرمان هي أوهن من بيوت العناكب، التي تمّردت بعد أن استوحدت في المساجد التي ُهجّر عنها أهلها عنوة في ضواحي طبريا وتل الربيع. وتشهد أن أُمّ البنات-أمريكا- تترنح نحو سقوط مدوٍ في قيعان أزماتها المالية والعسكرية والأخلاقية، ومن يتعلّق باسدال من يهوي سيهوي معه، وساعتها لن ينفع الذين اتبَعوا التبرؤ من الذين اتبُِعوا. أما من يتعلّق بعقائد من لا تدركه الأبصار فلن تدركه أيدي الاستعمار.
من الأكيد أنه يمكن لبعض الزملاء أن يعيد النظر في ذلك الخطاب، ومن ثم أن يصدر خطابا أصيلا يعيد الأمور إلى نصابها، ويعيد المواقف إلى رشدها، ساعتها يكونون كما كانوا، لا كما أريدَ لهم أن يكونوا. وعندها لن يخجلوا من النظر في وجوه أبنائهم، وخصوصا إذا اختار أبناؤهم مستقبلا جبهات القتال -عندما تفتح- قبل أن يختاروا مقاعد الدراسة.
إن مسؤولية اؤلئك الأكاديميين الآن مضاعفة، فمن اختار منهم الصمت فيما سبق، من باب "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"، لم يعد أمامه إلا الصدع بالحق لتجاوز شبهة السقوط، وصار لا بد من توجيه الخطاب التغييري الأصيل، ولا بد من استنصار الجهة الصحيحة، ولا أظنّ أن أحدا منهم يجهلها.
فهل يمكن أن يصدر الزملاء المحترمون خطاب استنصار أصيل يدفع عنهم إثم ذلك الخطاب ........ ؟
16/4/2009