الدكتور ماهر الجعبري
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير - فلسطين
تجري الاستعدادات لافتتاح مهرجان "القدس عاصمة للثقافة العربية" يوم 21 من آذار الحالي، والذي سيتم في خمس مدن تشمل القدس والناصرة ورام الله وبيت لحم وبيروت، متضمنا مشاريع ثقافية وفنية، رصدت لها ملايين عديدة من الدولارت (كما نقلت وكالة معا بتاريخ 12/3/2009)، منها خمسة ملايين دولار من السلطة الفلسطينية التي تصرخ كل يوم أنها غير قادرة على تأمين الرواتب للموظفين ! وهو مهرجان يحمل شعارا برّاقا قد يجتذب للوهلة الأولى بعض البسطاء، بينما هو مهرجان لا يمكن حضوره إلا عبر نوافذ السفارات "الإسرائيلية" ! ويمكن للبعض أن يدافع عن وجود نوايا "حسنة" لمنظمي مهرجان "القدس" إلا أن اختزال الوعي باحتمالات النوايا هو سطحية سياسية: فالأعمال السياسية تقاس بوقائعها ونتائجها، ولا معنى لاستحضار النوايا فيها. ولا بد من الارتقاء بالخطاب السياسي فوق مستوى الطفولة السياسية.
إن التذرّع بأن الاحتفال بالقدس هو دعم لها ينمّ عن تضليل مفضوح مكشوف، لأن مثل هذا الاحتفال الذي لا يتم إلا من خلال طَرْق أبواب سفارات دولة الاحتلال للحصول على تأشيرة الدخول هو تكريسٌ فعلي لاحتلال القدس واغتصاب فلسطين، وهو اعتراف ثقافيّ بذلك الاغتصاب. ثم إن قضية فلسطين ليست قضية جدار ولا مشكلة حصار، حتى نقول أن زيارة القدس تسهم في التصدي للجدار وفك الحصار. وإن دفاع منظّمي المهرجان بمنطق القياس الخاطئ ومقارنة ضرورة الحصول على إذن الاحتلال لزيارة السجين مع ضرورة إذنه لزيارة القدس "الأسيرة"، هو تسطيح للقضية. وإن هذا التقزيم لقضية فلسطين يُمعن في دحرجتها نحو مزيد من السقوط، ولن يسهم أبدا في نقل القضية إلى مستوى الحل.
القدس ليست مدينة للفلسطينيين ولا للعرب، بل هي حاضنة لأمة تمتد على جناحي عقاب يفترشا سماء الأرض من اندونيسيا إلى طنجة. والقدس ليست مجرد حيّ في "أبوديس"، يُختزل معنى تحريره بالمطالبة "بعبور" دوريات الأجهزة الأمنية في شوارعه. والقدس ليست كعكة (سمسمية) تباع وتشترى "بابَ العامود" وتقتسم فوق الأرض أو تحت الأرض. فكيف يمكن أن يزورها مثقفون وكتّاب من أبناء الأمة وكأنهم عابرو سبيل أو سيّاح لا شأن لهم بما يجري فوق ترابها من اغتصاب أو تحت صخور أقصاها من استلاب؟
إن كيان الاحتلال بعد أن استمتع بحفلات التطبيع السياسي مع الأنظمة العربية، على غرار العشاء الأخير في أنابوليس 2007، وبعد أن أيقن جهوزيّة الأنظمة للاعتراف بالكيان الغاصب، وأنها رهن إشارة منه بمجرد قبوله بإعادة "أبوديس" عاصمة للسلطة الفلسطينية، أدرك ضرورة التطبيع على مستوى الشعوب بمختلف فئاتها: فسهّل خلال العام الماضي السماح "لعبور" المطبّعين إلى مؤتمر التطبيع الاقتصادي بنسختيه: التلحمية والنابلسية. وهذه حفلة التطبيع الثقافي الجديدة التي صممّت لتوريط المثقفين والكتّاب.
إن المتابع السياسي يدرك أن مسألة نزع الاعتراف الشعبي بكيان الاحتلال على مستوى رجال الفكر ورجال الأعمال تبدو أولوية لدولة الاحتلال تخدم إستراتيجيّته الأمنية، فهي تمحو من خلالها ذاكرة الأمة العدائية ضد هذا الكيان، مما يزيل التهديدات الأمنية من مشاريع الشهادة الكامنة في رحم الأمة، وذلك في محاولة لاستكمال متطلبات الأمن التي هي محددات الحراك السياسي للكيان الغاصب.
فحذارِ من أن ينخدع المثقفون والشعراء والكتّاب العرب بهذه الدعوة ! وحذارِ من أن ينخدعوا فتزل أقدامهم وتطأ بلاط كيان الاحتلال في بعض العواصم العربية ! ومن أن يقبلوا التوقيع بأسمائهم على طلبات تأشيرات الدخول من سفارات العدو الغاصب. فإن أهل القدس لا يجاملون من يأتيها من أبواب السفارات "الإسرائيلية" مهما كانت ألقابهم، ومهما حسُن بديع بيانهم، ومهما رقّت أشعارهم. وحقيق على من يود منهم المغامرة بتاريخه الثقافي وشرف قلمه، أن يتذكّر ويتذاكر قصة "العبور" الذليل لوزير الخارجية المصري السابق لأسوار المسجد الأقصى تحت وقع أحذية أؤلئك المقدسيين الأحرار. فليس مستبعدا أن يكون المقدسيّون قد باشروا في تحضير أحذيتهم لاستقبال المطبّعين. وليربأ كل مثقف مخلص بنفسه عن مصير شبيه.
والثقافة ليست ربطة عنق تعلّق في حفلات الرقص على جراح القدس، ولا هي قصيدة غزل بمغتصبَة تأنّ تحت المغتصبِين. بل الثقافة تمرّد على الواقع المرير، وهي أصالة ووعي وحضارة تمتد جذورها في تاريخ الأمة مشرقة وضّاءة ناصعة مستندة إلى نور سماوي، وتشرئب بأعناقها نحو مستقبل واعد من العزة والسيادة. والثقافة عصيّة على التدنيس بخلطها بكلمة التطبيع، التي لا يمكن أن تذوب في بحر الأمة الثقافي. ولذلك فنشاطات التطبيع الثقافي هي ظلم للثقافة وامتهان لأصالتها، مهما كانت الذرائع.
القدس تنتظر الفاتحين، وهي لا زالت ترسم على أسوارها ذلك المشهد التاريخي لدخول عمر فاتحا، ولدخول صلاح الدين محررا، وتلك الجدران الطاهرة لن تقبل برسم مشاهد ذليلة لأي مثقّف يدخلها مطبّعا.
إذاً، ونحن نلاحظ تهاوي شعار "القدس عاصمة للثقافة"، يحضرنا شعار القدس الأصيل الذي رسمه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلّم في حديثه الذي قال فيه: "لا تقوم الساعة حتى تنزل الخلافة ببيت المقدس".
لقد استلهم الشيخ رائد صلاح هذا الشعار منذ سنوات عندما وقف خطيبا يوم الجمعة بتاريخ 15/9/2006 في مهرجان الأقصى الذي ضم حوالي 70 ألفا من أهل فلسطين في مدينة أم الفحم المحتلة عام 1948 (من الذين يسمّيهم المطبعون ظلما وبهتانا "عرب إسرائيل") قائلا "القدس ستكون عاصمة للخلافة الإسلامية بصورةٍ أسرع مما هو متوقع". (كما نقلت صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 19/9/2006). وكانت محاكم التفتيش لدى دولة الاحتلال قد عمدت إلى "التنبيش" خلف الشيخ صلاح حول تصريحه بذلك الشعار. فهو شعار يقض مضاجع المحتل. وهو شعار كان حاضرا في جلسات المحكمة "العليا الإسرائيلية" التي وقف فيها محامو الشركات "الإسرائيلية" والأمريكية مصرّين على بناء متحف التسامح على أرض مقبرة مأمن الله الإسلامية في القدس، مستخفّين بحرمة القبور الإسلامية وهازئين بقبور جنود صلاح الدين الأيوبي المدفونين في تلك المقبرة، وهو شعار دفع محامو تلك الشركات إلى شنّ هجوم على الشيخ رائد صلاح لأنه يدعو "إلى إقامة الخلافة الإسلامية وعاصمتها القدس." (كما نقلت قدس نت بتاريخ 30/4/2007).
لا يمكن للمثقف العاقل أن يغفل عن صراع الثقافات ولا عن حرب الأفكار الضروس بين حضارتين تتنازعان مستقبل العالم، وهي حرب تتمثّل، فيما تتمثل، بنزال الشعارات التي تجتذب الناس حولها. وخصوصا بعدما صارت صناعة الشعارات مهارة خاصة لدى طائفة من المروجين لقبول الكيان الغاصب على أرض فلسطين. وهي شعارات تسهم في محاولات محو ذاكرة الأمة الزاخرة بمعارك التحرير والبطولات، وفي تفريغها من مخزون الوعي الكامن في أجيالها، والذي تشرّبته مع حليب الأمهات. وهي شعارات مصطنعة تؤدي إلى تشويه طبيعة علاقة الصراع بين الأمة والمحتلّين، وتعمل على مد جسور لعبور اليهود المحتلين إلى وجدان الأمة، وتمكّنهم من القفز فوق ذلك الوعي الثقافي الأصيل الراسخ فيها.
وهذان شعاران يتصارعان في ميدان الأمة السياسي: شعار ثقافة التطبيع وشعار ثقافة التحرير. وحري بكل واع أن يلتف حول شعار العزة الأقوى. فشعار "القدس عاصمة الثقافة" هو شعار الضعفاء، أما شعار الأقوياء الذين يبتغون العزة من الله فهو: "القدس عاصمة الخلافة". والزمن القريب كفيل باختبار مصداقية الشعارين ! وهذه صرخة تحذيرية للمثقفين العرب من أن ينخدعوا بشعار المنهزمين التطبيعيّ وإن غُلّف بثوب مقدسي.