الرئيس مرسي بين التقديس والمحاسبة
الدكتور ماهر الجعبري
مع اكتمال فترة مئة يوم من رئاسة مرسي لمصر يدور جدل في الأوساط الإعلامية والسياسية حول أدائه السياسي وحكمه، ولا شك أن هنالك خصوما سياسيين في مصر يكافحون كل ما يمت للشعار الإسلامي بصلة، وبالتالي فهم يتناولون رمزية وصول "الإسلاميين" للحكم في مصر لينالوا من النموذج الإسلامي السياسي، وفي المقابل هنالك تطلعات إسلامية لتغيير حقيقي على أساس الإسلام، يخلع التبعية الغربية من جذورها ويؤسس لمشروع إسلامي حقيقي يطبق الإسلام على مستوى الحكم والاقتصاد والاجتماع والتعليم. وبالطبع هنالك المؤيدون لمرسي ممن يكاد لسان حالهم يقول افعل ما تفعل فإنّا على يقين بأنك ملهم لا تخطئ.
وعلى وقع هذه التجاذبات السياسية والإعلامية حول نموذج رئاسة مرسي لمصر لا بد من وقفة وعي على كيفية متابعة المحكوم للحاكم على أساس سياسي شرعي:
بداية لا بد من التأكيد أن استغلال نموذج مرسي للنيل من النموذج الإسلامي للحكم، هو تجنّ على الإسلام، من عدة نواح، أبسطها أن مرسي لا يدّعي أنه يطبق نموذجا إسلاميا، ولم يقل حزبه أنه أسس دولة إسلامية أو خلافة عبر إيصال مرسي للحكم، ولذلك لا يمكن محاكمة النموذج الإسلامي من خلال أداء مرسي، طالما أنه يتحدث عن دولة مدنية (علمانية)، وطالما أنه يُقبّل علم مصر ويتحدث عن مشروع وطني "للأمة المصرية"، ولا يرفع علم وحدة الأمة ولا يسعى للخلافة كمشروع إسلامي يلغي الحدود ويحرك الجنود.
وبالتالي فإن ما يجري في مصر من اصطراع سياسي بين الحاكم والنخب السياسية لم يرق إلى أن يمثّل صراعا بين نموذج إسلامي وآخر علماني، بل هو صراع بين رجالات متوافقة على الدولة المدنية-العلمانية بينما تختلف على رؤى تفصيلية وعلى حصص سياسية. ومن الواضح أن جزءا كبيرا من المعارضة المصرية تتفاعل وتضطرب خشية من بعبع "الهيمنة الإخوانية"، لا من فرض "الإسلام السياسي"، وبعضها يتحرك بدافع استرجاع نفوذ الطبقات السياسية التي ترعرعت تحت حكم مبارك.
لذلك فإن تقويم أداء مرسي هو مثل تقويم أداء أي حاكم آخر من الأنظمة الجمهورية، التي تكون السيادة فيها للشعب، يشرّع أنظمته عبر مشرّعين يتواضعون على قوانين يستمدونها في الغالب من تجارب الشعوب السابقة ومن الخلفية التشريعية الفرنسية في كثير من الحالات.
صحيح أن نظام مرسي قد اختلف عن الأنظمة العربية بأن الثورة قد أرجعت جزئياً السلطان للناس، فصارت تنتخب حاكمها بعد أن كان مفروضا عليها بالقوة والقهر، ولكنها لم ترجع السيادة للشرع ليكون الاحتكام للتشريع الذي جاء به الوحي كما يقرر نموذج الخلافة الإسلامية.
ورغم هذه الحقيقة "الجمهورية-العلمانية" لنموذج حكم مرسي، فإن هنالك محاولات من قبل المؤيدين له لشرعنة كل مسألة من مسائل الحكم أو الاقتصاد التي يقررها مرسي على أنها تجسيد لأحكام الإسلام، كما فعلوا في مسألة قرض البنك الدولي الذي يرسّخ الهيمنة الاقتصادية الغربية ويرسّخ النموذج الربوي في الاقتصاد، بل وينافحون لتمرير كل فعل أو موقف سياسي، مثل موقفه من اتفاقية كامب ديفيد، وتعيين سفير جديد في "إسرائيل"، كأنها منبثقة عن وعي شرعي إسلامي.
وهم بذلك يجعلون مرسي فوق الشبهات، ويجهدون في إنزاله منزلة لم ينزلها الصحابة للخلفاء الراشدين، بل ربما فوق منزلة الأنبياء، ويواجهون أي محاسبة سياسية له أو أي نصيحة بدعوى إعطاء "الفرصة".
وهنا يبرز سؤال كبير لأولئك المبرّرين: هل تجوز متابعة أعمال مرسي ومحاسبته دون تقديس؟ سؤال قد يكون استعلاميا وقد يكون استنكاريا أو حتى استفزازيا، للأتباع الذين سلّموا قيادتهم الفكرية قبل السياسية لذلك النموذج المصري الجديد، لأنه ولد من رحم الإخوان المسلمين، فاستمد عندهم الشرعية من "الرحم" لا من محاكمة المضمون والممارسة للوحي.
وقد يغيب عنهم في لحظات "التقديس" للرئيس أن الله سبحانه قد عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم عندما فعل ما هو "خلاف الأولى"، وأنزل عليه "عبس وتولى أن جاءه الأعمى"، وأن بعض الصحابة الكرام قد تساءل أمام الرسول الكريم حول موقف سياسي في صلح الحديبية، عندما ظنّوا أنه ينجزه كسياسي يقود الأمة، وجهر عمر محتجا "أنعطي الدنيّة في ديننا؟" لولا أن تداركه أبو بكر ليذكّره باتصال الأمر بالوحي، لا بالسياسة في ذلك الموقف. ثم إن كلمات عمر عندما أوقفته المرأة عن خطئه، وصدع أمام الناس بلا مواربة "أصابت المرأة وأخطأ عمر"، لا ترنّ في آذان المبررين لمرسي كل فعاله.
وإنه لمن الغريب أن يتبنّى "الإسلاميون" نموذج الدولة المدنية تأثرا بالغرب، الذي تفتق لديه عندما هرب من نموذج الدولة الدينية التي جعلت الحاكم فوق المحاسبة لأنه كان عندهم "ظل الله في الأرض"، بينما يصرّ الأتباع والمؤيدون لمرسي على شرعنة كل أفعال الحاكم كأنه مقدّس، فيكونون قد جمعوا كل نواقص الثقافة والتاريخ عند الغرب، في نموذج الدولة المدنية من حيث التشريع العلماني، وفي نموذج الدولة الدينية في تقديس الحاكم وجعله معصوما عن الخطأ.
والحقيقة أن نماذج المحاسبة السياسية والنصيحة للحاكم كثيرة في ذاكرة الأمة، وجلية في تراثها الثقافي ومفصّلة في أحكامها الشرعية. فهل يتجاوز المؤيدون كل ذلك الإرث الثقافي والتشريعي ويقفون سدا أمام قيام الأمة بذلك الدور الرائد الذي لا غنى عنه لأي أمة تريد أن تستعيد سلطانها؟ وهل يمكن أن يصل الأمر لحالة من "التغوّل الإعلامي" باسم الإسلام؟ وهل تجد الناس أنفسها أمام حالة من الاستقواء باللحى على الآخرين كلما رفعوا أصواتهم أمام حاكم رضي أن يجلس على كرسي مبارك كما هو؟
يريد الأتباع المقدّسون من الأمة أن تطأطئ الرأس أمام مرسي حتى عندما يضع إكليل زهور على قبر السادات، الذي سقط على أيدي مسلمين بجريمة توقيع اتفاقية كاب ديفيد، التي شرعنت اغتصاب فلسطين، وحتى عندما يجرؤ مرسي أن يقول بلا خجل من ضمير الأمة ولا حياء من تاريخها بأن "لا مشكلة لدينا في الاتفاقية". وحتى عندما يقتل تحت شعار مكافحة الإرهاب الأمريكي، وحتى وهو يجسد نموذج الأنظمة التي استغلت شعار الإسلام وركبت فوق الثورات، بينما استحلت دماء المسلمين التي هبّت غضبة لله ولرسوله، فسقطت في تونس وفي القاهرة برصاص حكومات "الإسلاميين"، وهي تحمي سفارات المستعمر الأمريكي.
ويريدون من الأمة أن تعطي مرسي الفرصة وقد رضي أن يكون حاكما عربيا يتحرك في أروقة الأنظمة العربية، ويقف في المحافل الدولية يتحدث لغتها، ويحتكم لقوانين لعبتها، وقد أكّد بالممارسة قبل القول أنه يسير ضد اتجاه النموذج الإسلامي في الحكم، وهذا الواقع لا يحتاج إلى جدال مع أي منصف، وإن جادل المجادلون حول نياته وغاياته المضمرة، فالحديث هنا هو عن الواقع وما يجري على الأرض، لا عمّا يحلم به المؤيدون.
إن الاستقواء المعنوي بشكل الحاكم الملتحي وبالرحم الذي خرج منه في ظل هشاشة المضمون السياسي يكشف عن مسيرة انحدار في الوعي وهبوط في الثقافة وجريمة ضد حضارة الأمة.
ولقد كانت محاربة وعي الأمة جريمة الحكام ومن سار في ركابهم من علماء السلاطين فيما مضى، أما أن تصبح اليوم جريمة تقترف تحت شعار "الإسلام السياسي" فإن الخطورة أكبر من أن تُمرر تحت عنوان "المجاملة" السياسية، وتحت ذريعة عدم شحن الأجواء الإسلامية. ومع ذلك فإن مواجهة هذه الجريمة كفاحيا لا تعني مواجهة الإخوان المسلمين، بل هي مواجهة النظام السياسي في مصر، لأن الصراع والكفاحية هي ضد الأنظمة والحكومات لا ضد الأشخاص والحركات.
وإن الأمة بحاجة ماسة لأن تجسّد نموذج المحاسبة السياسية الواعية، دون تقديس للحاكم، ودون صناعة أصنام جديدة من القادة، ودون عيش جديد في وهم الزعامات الملهمة التي لا تخطئ. ولذلك فإن أي محاولة لمواجهة تحركات المحاسبة السياسية هي وأد للثورة التي أشعلتها الأمة واشتعلت بها للتخلص من عبادة الزعماء وتقديسهم، والتعامل معهم كبشر لا تستحيل عليهم الخيانة مهما صلّوا وصاموا وحفظوا من كتاب الله.
وعندما صوّر تقي الدين النبهاني رحمه الله نموذج الخلافة الإسلامية، كان سبّاقا في تأكيد بشرية النموذج، عندما قرر أن دولة الخلافة هي دولة بشرية وليست إلهية تستمد السلطة من الله ولا يكون حاكمها فوق المحاسبة، بل أكّد بصراحة ووضوح أن "الخليفة بشر يجوز أن يخطئ ويصيب، ويجوز أن يقع منه ما يقع من أي بشر من السهو والنسيان والكذب والخيانة والمعصية"، فإذا كانت الخيانة والمعصية غير مستحيلة على الخليفة الذي يطبق شرع الله فهل تستحيل على مرسي الذي يطبق الشرع الجمهوري؟
إن من يخلص في حب مرسي ومن يختزن قناعة بشخصه هو الأجدر على القيام بدور المحاسبة السياسية من باب النصيحة، لا أن يسلّم قيادته الفكرية للحاكم كأنه أمام نبي مرسل أو ملك مقرب.