الاستغباء السياسي في فلسطين
الدكتور ماهر الجعبري
يمر الواقع الفلسطيني بحالة من الاستغباء السياسي على مختلف الأصعدة: إذ تستغبي السلطة في السياسة وفي الاقتصاد وفي البرامج الاجتماعية. وتستغبي الفصائل الفلسطينية أتباعها في طرحها السياسي وفي الموقف من دولة "إسرائيل" ومستقبل العلاقة معها. وتستغبي الجهات الدولية ومؤسساتها الناس عبر برامجها التي تستهدف التخريب الثقافي والسياسي بدعوى التنمية وتقديم المنح. وهذه بعض مظاهر الاستغباء السياسي التي تستوجب وقفة تصدي سياسي وفكري قبل استفحال لداء لا يرجى الشفاء منه:
تروّج القيادات "الفصائلية" والسلطوية السلطة تحت الاحتلال على أنها مقدمة للدولة، وعلى أنها مشروع وطني، بينما هي في حقيقتها مؤسسة خدمية تعفي الاحتلال من مسئولياته، وهي مخفر أمني يقدم أعلى الخدمات الأمنية لذلك الاحتلال، وتتركز موازنة تلك السلطة (الثلث) على الأجهزة الأمنية، بينما يقف حجم الإنفاق على التعليم (لشعب تحت الاحتلال) دون حد الربع! أليس هذا استغباء للناس.
وكانت قيادات المنظمة قد استغبت الناس عندما وعدتهم بالنماء الاقتصادي مقابل قبولهم الاستخذاء أمام الاحتلال والاعتراف به، ثم كشفت لهم عن أنيابها الضرائبية، وعن جشعها المالي ورعايتها لسياسات رفع الأسعار لتوفير مدخلات لموازنات السلطة.
ثم تكشفت عورة تلك القيادات السياسية وهي تسعى لبناء مؤسسة استثمارية، يتمتع بها قادة المنظمة بالمناصب والامتيازات على حساب الناس المقهورين تحتهم. هذا عدا عن النهب المفضوح في الفساد المالي المستشري في السلطة، وفي ابتلاع "الكبار" لأصول الأموال في منظمة التحرير الفلسطينية.
ولم يكتف "الكبار" بتلك الحصة المالية، بل تمادوا في استغباء الناس وهم يتباهون في الانتساب للنضال والكفاح ويتفاخرون بالسجل البطولي الزائف، بينما هم –على الحقيقة- يمارسون استرزاقا بشعا في عملهم ضد قضية فلسطين، بدعوى الكفاح من أجلها. وهم ينتفخون أمام الناس بالانتساب لتاريخ نضالي، تمخّض -في حقيقته- عن حالة مستعصية من التضليل السياسي تمثل سابقة تاريخية، إذ تحولت حركة تحرر وطني إلى كيان أمني يحمي الاحتلال، الذي ادعت أنها تأسست للتحرر منه!
وقبلت تلك المنظمة من وصفته أنه كرازاي فلسطين، ثم نصبته قائدا لمسيرتها "الوطنية"! ومن ثم قبلت بموظف البنك الدولي الذي لم يعرفوا عنه شيئا قبل أن يدفعه الأمريكان ليرأس حكومة تلك السلطة، وسكت "المناضلون القدامى" أمام هذا الاستغباء المتصاعد. وتحول كرازاي إلى رمز وطني، وتحول الموظف الدولي إلى سياسي كبير يلتحم مع القائد الوطني في المشروع الوطني المدّعى.
وفُتح المجال لموظف البنك الدولي لتمرير الخزعبلات الثقافية والوقاحات الاجتماعية على أنها انجازات وطنية لشعب تحت الاحتلال: فاحتفل بأكبر صحن "مسخن دجاج" وبأكبر "سدر كنافة"، واحتضن مباريات رياضية نسائية تتكشف فيها العورات، ودفع محاولة عقد مسابقة ملكة جمال تحت الاحتلال! ثم تحدث بعض كبراء هذا المشروع الوطني عن رؤيتهم لأن تكون البنت الفلسطينية عارية (بالشُرت) في مفاضلة على أن تكون عفيفة بالحجاب، فأي تغابي اجتماعي وثقافي أكبر من هذا الذي تمارسه هذه الرموز التي لا تنتمي للأمة ولا لثقافتها!
ولما تصاعد الحراك الشبابي في غضبة ضد نهب مقدرات الناس وتجويعهم، أخذت السلطة ورجالاتها تضلل الناس وتحرف غضبتهم عن بؤرة الموقف: قال بعضهم نريد بحث استيراد الوقود، واستغبوا الناس، ولم يتحدثوا أن السلطة تشتري الوقود حاليا بأقل من ثلث ثمنه الذي تبيعه به، وتجمع الفرق أرباحا ضرائبية.
ثم أخذت قيادات السلطة الاقتصادية تستفتي الناس عن حل مشاكل السلطة والناس، في حالة غريبة من التغابي، إذ لم يسبق "لحكومة" أن طلبت ممن نُصبت عليهم أن يحلوا لها مشاكلها. وتناست تلك السلطة أنها قد كدست جيشا من المنتفعين والمسترزقين من مشروع السلطة وحمّلتهم على أكتاف الناس. إذ تشير بيانات السلطة إلى أن خمس موظفي السلطة "الكبار" يتقاضون نصف حجم الرواتب!
ثم راحت قيادات السلطة تضلل الناس بأن ضنك العيش مرجعه الوحيد هو الاحتلال، متغابية عمّن وقع تلك الاتفاقيات السياسية والاقتصادية التي قادت إلى ما قادت إليه من واقع مرير. وظلت السلطة تحمي كل المفسدين والمختلسين من أن تنالهم أيدي الناس، واستغبت الناس بتشكيل محكمة للفساد، هي نفسها بحاجة لمحكمة تحاسبها على فسادها في عدم متابعة ملفات المفضوحين في أدراجها.
وفتحت تلك القيادات الباب على مصراعيه للمؤسسات الدولية والجهات المانحة لتشكّل الواقع الفلسطيني كما تريد وحسب أجنداتها، وروضت الناس أن تكون يدا سفلى، مستبدلة بجيل الثورة جيلا من "الشحادين" الأنيقين. وتغابت تلك الجهات الاستعمارية على الناس إذ ادّعت أنها تنموية، فيما هي في حقيقتها تدميرية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
ثم إن الفصائل الفلسطينية وهي تنتسب للمقاومة، تتغابى على الناس عندما تقول أن المقاومة هي طريق التحرير لفلسطين، بينما تتمسح قادتها بالمحافل السياسية وتقول أن المقاومة هي ورقة ضغط على طاولة المفاوضات. وازداد التغابي عندما تطور مفهوم المقاومة لينحصر في المقاومة السلمية، واستفحل ذلك التغابي عندما ادعت قادة المقاومة أن القيام بالمقاومة ودعمها يُعفي جيوش المسلمين من التحرك لخلع الاحتلال من جذوره، في حالة استغباء متراكمة، إذ من البدهي عند من يفكر على أساس من الوعي الشرعي والتاريخي والعسكري أن تحرير الأرض من الاحتلال هي مهمة جيوش، ولا تُنجز بدونها. وتزداد حالة الاستغباء فظاعة عندما يدعي من يرفض اتفاقيات الذل أنه يقبل تفويض قادة المنظمة للتفاوض والتنازل، وأن احترام تلك الاتفاقيات هو في الخيانة دون مستوى التزامها!
وعندما تصاعد الحراك الشبابي وتململ لمواجهة سياسات السلطة، ولقلب الطاولة فوق رؤوس من اختطفوا قضية فلسطين، بدأت حالة التغابي لدحرجة الخطاب للأسفل، بعدما أوشك ذلك الحراك أن ينال من كرامة كبراء السلطة ومن شرفهم السياسي (الضائع أساسا). وراح بعض الناشطين يجددون الولاء للرئيس الذي يستغبي الناس.
وكذلك فعلت بعض النقابات المهنية التي تسبح في فضاء السلطة وتسبّح بحمدها، وعلّقت برامجها الاحتجاجية، عندما بدأت تلك الغضبة تربك قيادات السلطة، وتكشف حجاب "التنبلة" السياسية. وتغابت تلك النقابات على منتسبيها (المهنيّين!) إذ أعلنت أنها ضد سياسات التجويع، بينما جددت البيعة لمن يرعى تلك السياسات!
والأشد غرابة في حالة الاستغباء هذه هو انقياد أتباع لهذه الحالة، وخنوعهم لمن يستغبيهم من القادة والفصائل، في لهث خلف المنافع، وفي تنافس على كعكة هذا المشروع السلطوي-الاستثماري، أو في حالة غريبة من تأجير العقل للكبار.
إن مقاومة هذا الاستغباء أو "الاستحمار" الفلسطيني حتمية لازمة لمقاومة الاستعمار "الصيهو-أمريكي"، وقد بدأت الناس تتململ للوقوف في وجوه من يحاول أن يستغبيهم أو يستحمرهم.
28/09/2012