الخلافة المتأهبة ... كن معها قبل أن تكون عليك
الدكتور ماهر الجعبري
"حالة النكران" هي مرحلة نفسية يتحدث عنها الأطباء، تعقب صدمة الإنسان بحدث مصيري أو أحداث جوهرية تهدد مجرى حياته أو تحدث تغييرا سلبيا كبيرا فيها، فتنكر مشاعرُ الإنسان الواقعَ المتغير، وتدفعه للعيش في حالة "لا واقعية" من الماضي الذي تجاوزه الحاضر.
هي حالة جلية في الحكام، وهم يعيشون صدمة الثورات التي زلزلت أركانهم: ظهرت لدى مبارك قبل ليلة من إعلان رحيله، وظهرت في خطابات القذّافي وهو يسأل الذين يهزّون أركان عرشه ويخلعونه: "من أنتم؟"، وتظهر اليوم لدى بشار تحت وقع صيحات الثائرين ووقفاتهم، وهو يتحرك حركات المذبوح في النزع الأخير، إذ تتخبط يداه بعشوائية يمنة ويسرة، ليوجه طعنات الجريح قبل الموت وقبل أنْ لا حراك.
تلك الحالة من "نكران الواقع" ليست غريبة على حكام يسقطون بعدما عربدوا وكادوا أن يتألهوا على الناس، ولكن الغريب هو حالة النكران لدى حركات وأحزاب، ومنها من حملت مسمى الإسلامية، ولدى شخصيات سياسية وكتّاب ومثقفين، ومنهم من حمل الألقاب الثورية وألقى الخطابات التعبوية ضد الاستبداد، ولدى إعلاميين ممن يعتبرون أنهم ينقلون الحدث بأمانة.
إن الواقع اليوم مُتفجّر، والأيام حُبلى لا يدري الغافل ما تلد، وهي ثورة لن تبقي من الاستبداد شيئا ولن تذر من الاستعمار وأعوانه أحدا، فإن الأمة تعيد صناعة التاريخ على الأساس الذي كان عليه التاريخ الأول. وإن المعلوم للباحثين أن رصد الواقع يكشف عن خصائصه، ويمكّن من توقع ما يخبئه المستقبل، تماما كما يؤدي رصد الغيوم إلى توقع المطر، ويؤدي رصد الشهب إلى التحذير من حرائق متوقعة المكان على الأرض.
وإن رصد هذا الواقع المتفجر في الأمة يكشف عن خصائص التغيير الجذري، التي تتأصل هذه الأيام في الثائرين، مِنْ رفض الاستعمار بكل أشكاله، ورفض أعوانه المتخفّين بأثواب الأمة من أمثال المجلس الوطني السوري، وغيره من المتسلقين على أكتاف الثوار كالرئيس التونسي الجديد الذي يصف شعبه بالجراثيم، لأنهم يؤيّدون الدعوة والوحدة الإسلامية، ويرحبون بالشيخ وجدي غنيم وبرمزية حضوره الإسلامي.
وإن رصد واقع الثورة في سوريا على الأخص، يكشف عن شعارات "إسلامية" خالصة من مثل "لن نركع إلا لله"، ولم تستطع كثير من محاولات "الاستعمار وأعوانه" من حرفها عن إسلاميتها الخالصة، فمثلا لم تنجح في تمرير "تدويل القضية" رغم تكرار محاولات التصويت عليها على مواقع الثورة لثلاثة أسابيع متوالية، لأن الثائرين يدركون تماما أن "الثورة ضد الاستعمار" لا يمكن أن تماشيه، ولا أن تتحقق من خلال "آلياته"، بل استمرت الحناجر لا تهدأ في رنين من أجل الحرية والتحرر من الاستبداد.
وإن رصد مشاهد الثورة السورية، على مواقع البث الحرة (مثل اليوتيوب) وأحيانا ضمن ما لا تملك الفضائيات من حذفه من مشاهد، يبدي بجلاء ذلك اللواء الأبيض الممهور بكلمات العقيدة، تماما كالذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أحدث مشاهده بروزه بحجم لافت أمام الجنازة المهيبة في دمشق حيث تعانق بياضه مع بياض الثلج المتراكم فوق الرؤوس.
إنه لواء لا يمثل إلا وجهة واحدة دون سواها، وهي وجهة الخلافة، وتبدو معه بين الحين والآخر رايات العقاب السوداء ممهورة بنفس الكلمات وترمز لنفس الغاية. والحديث في هذا السياق هو عن غاية أمة تتحرك بخطى ثابتة نحو الخلافة، وليس عن سواعد حزبية خاصة، رغم وجودها وقوة تأثيرها، تحمل تلك الألوية والرايات.
إن شدة وضوح هذه القراءة "الموضوعية" للواقع المرصود، قد مكّنت كثيرا من ساسة وإعلامي الغرب من استبصار "الخلافة" على مرمى حجر وعند قفزة نمر، كحقيقة واقعة، وتواترت تحليلات السياسيين وتعقيبات الإعلاميين حولها، من أمثال الإعلاميّ الأمريكيّ جلن بيك (Glenn Beck) الذي شرح للأمريكان –في برنامجه على قناة فوكس نيوز الأمريكية بتاريخ 29-6-2011، سياق الربيع العربي في ضوء حديث نبوي يبشر بالخلافة.
لم تقف المؤشرات عند حدود الواقع وما يشير إليه من مستقبل واضح، بل إن بشائر الغيب تدلل على أن الشام هي عقر دار الإسلام، وسبق تلك البشائر وعد الله الحق في آيٍ تقطع للذين آمنوا –كأهل ثورة سوريا- "ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم".
إنها الخلافة المتأهبة تتكون في عقول وقلوب الناس في تحرّك تصاعدي يتسارع، مع جنود الشام المخلصين يرفعون نفس الرايات ونفس الألوية، ويستلهمون مجد خالد وصلاح الدين، وهم يدافعون عن الثورة السلمية، لتلتحم الفكرة الظاهرة مع القوة الناصرة، وينبثق الفجر على حين غرة، وفي لحظة غفلة من كل أولئك "المنكرين"، والذين لم يستطيعوا هضم حركة التغير وزخم الأمة وتفاعلها مع قناعاتها الراسخة.
وبالطبع هنالك خلق ممن خُتم على قلوبهم بالاستبداد، وهم لطبيعة حركة التاريخ، لن ينالوا شرف أن يكونوا من جند أو قادة تلك الخلافة، من أمثال الحكام الذين تدوسهم الأمة تحت أقدامها جزاء بما كانوا يطئون أحلام الأمة، ولذلك فالخلافة ضدهم لا محالة، وستنتهي بهم في أقفاص المحاكم الحقيقية لا الصورية.
وهنالك خلق ممن باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، من المنافحين عن حكّام يتساقطون، من أمثال علماء السلاطين كالحسّون والبوطي ومن شايعهم من أصحاب العمائم المؤجرة لبشار، من الذين جعل الله امتحانهم في آخر أيامهم عسيرا (ويا له من موقف وامتحان!)، ومن الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، ومعهم جماعة من "المثقفين" والإعلاميين الذين يجبنون أمام حركة التاريخ، فيصرّون على أن يتعلقوا بأستار نظام متهاوٍ حتى اللحظة الأخيرة، كما أصرت المذيعة الليبية هالة المصراتي عندما ظنّت أن القذافي حاميها، فأشهرت مسدسها على الشاشات منافحة عن سيدها، وها هي اليوم بلا قضية تُنجي في الآخرة، ولا موقف مشرف يعز في الدنيا.
ومن الصعب أن يجد المنصف فرقا بين هؤلاء المجندين والمقاتلين مع الاستبداد بالكلمة، وبين الشبيحة وكافة الأجهزة الأمنية التي تقمع الشعوب بالسلاح، ولذلك فإن هؤلاء العلماء من أصحاب الكلمة الباطلة، وأولئك العملاء من أصحاب البندقية الحاقدة، لا جدوى من توجيه هذه الرسالة لهم، ولا يتوقع أن يتمكنوا من الخروج من معسكر الاستبداد، وخصوصا بعدما تلطخت عمائمهم وأيديهم بدماء الأبرياء من أطفال ونساء ورجال المسلمين، ومن غير المستبعد أن تضمهم نفس الأقفاص التي تضم الحكام المستبدّين ليلحقهم خزي الدنيا وعقابها، قبل العقاب والخزي الأكبر.
ويبدو أن نصر الله وحزبه المنافح عن نظام الإجرام في سوريا لا يريد أن يصغي للأمة، وقد وقف يخطب متبجحا بأن لا شيء في حمص كما "نقل له أصدقاؤه فيها!"، وهو يريد من الناس أن تأخذ خبرا سمعيا ممن تُبطل مواقفُه المفضوحةُ عدالتَه، ومن ثم يريد من الناس أن تُكذّب معاينةًَ واقعيةً تشهدها الأعين، وتنقلها أصوات من تسيل دمائهم في وقفة حق ضد سلطان جائر. إن ثورة الحسين رضي الله عنه كانت ضد خليفة من أجل نظام أعدل، وهذه ثورة ضد بعثيّ مجرم من أجل نظام العدل، فمع من يقف أمثال الحسين رضي الله عنه؟
ويبدو أن من رجال "المقاومة" الفلسطينية يصرّون أيضا على عدم الانحياز للثورة، بل يُبدون التثاقل إلى نظام بشار، ولكنّ خيرا يرتجى من توجيه الرسالة إليهم: فكونوا مع الثورة قبل أن تتجاوزكم، وقبل أن لات حين مندم، ولا تكرروا "قصة هالة والثورة"، فإن بشار ساقط ويرتقب مصيرا أبشع من مصير القذافي: كونوا مع ثورة الشام قبل أن تكون عليكم، هي والتاريخ معها.
وبينما يقف كل هؤلاء مع الاستبداد وضد الخلافة المتأهبة للانبثاق، أو يتباطئون عن تأييد الثورة، يقف اليوم كثير من خلق الله على المحك، ممن يصفّقون للثوار عن بعد، أو يتسلّقون على أكتافها عبر صناديق الاقتراع تحت شعار "الإسلام"، بينما لم يحسموا أمرهم مع مشروع الخلافة، كقضية مصيرية وموقف حياة أو موت، وممن لا زالت لديهم فرصة الانحياز لمشروع الخلافة قبل أن تتجاوزهم الخلافة ببيانها الأول، تعلن فيه أن الصحف السياسية قد طويت وأن الأقلام الإعلامية قد جفت، وقد تبدّل التاريخ، فظل مع الخلافة من كان معها، وصارت الخلافة تحاسب من كان يحاربها وهي تتخلق في رحم الأمة، أو من كان ينكّل بأنصارها وثوارها قبل تلك اللحظة الفاصلة.
وهذه نصيحة لكل حركة ولكل سياسي ولكل إعلامي: كونوا مع الخلافة وهي في هزيع الليل الأخير الذي يسبق انبثاق فجرها، قبل أن تفاجئكم بعد "حالة الإنكار" هذه بحالة "الإقرار" الذي يكون قد فات أوانه ... اقبلوها نصيحة لكم قبل أن تكون فضيحة عليكم.