سلطة تعيش خريفها في زمن الربيع العربي
الدكتور ماهر الجعبري
يتوافق موعد توجه رئيس السلطة الفلسطينية للأمم المتحدة وخطابه فيها مع موعد التحول الطبيعي نحو فصل الخريف، وذلك بعد ربيع عربي مشرق زغردت فيه حناجر الثوار تغني للتحرر، وبعد صيف ثوري ساخن ألهب قصور الحكام، بل كوى أجساد بعضهم.
وإذ تعمل القيادة الرسمية في السلطة الفلسطينية على حشد التأييد الشعبي لهذه الخطوة على مختلف المستويات كما هو مشاهد على الأرض، لا بد من وقفة سياسية فكرية أمام ما آلت إليه "فلسفة العمل الوطني" ومنطلقاته الفكرية، في ظل فهم لحركة الفصول الطبيعية فوق جغرافيا الأرض وتناغمها مع كرّ الليل والنهار.
يأتي هذا التوجه السياسي كنقطة تاريخية في مسار تدحرج القضية الفلسطينية، إذ أنه يستند بوضوح سافر إلى إقرار راسخ بشرعية الاحتلال في مقابل استجداء أوراق رسمية مروّسة تحمل شعار دولة فلسطين. وهي حلقة زائفة في مسلسل هبوط قضية فلسطين، أخرجه مختطفو القضية في سلسلة من الحلقات المحبوكة:
وتتمثل في هذا الخريف السلطوي ذروة الزحف "الوطني" والتحول الصارخ عن منطلقات "اللاءات الثلاث: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض"، إلى محطة أبعد من نقيض تلك اللاءات، بعدما حصل الصلح والاعتراف والتفاوض، وحصل دونه التنسيق الأمني مع الاحتلال، ولم يحصل أصحاب هذا النهج إلا على الوهم، وعلى ألقاب الفخامة والمعالي، حتى انطبق عليهم قول الشاعر:
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وهناك على منصة الزعماء والرؤساء يقف رئيس السلطة الفلسطينية منتفخا كالرؤساء والزعماء ومتشبها بهم، ويعلن أنه لا يريد نزع الشرعية عن دولة الاحتلال الغاصبة لأرض فلسطين، وذلك في وقفة كانت تعتبر في أدبيات الثورة الفلسطينية "خيانة"، وصارت اليوم "وجهة نظر".
وهي وجهة تضلل فئة مصفقة، ومنقادة خلف الزمّار نحو الهلاك، حيث تدفعها ماكينة إعلام السلطة للاحتشاد حول "وجهة النظر!" تلك، دونما وعي على ماض من العزة والكرامة ولا استشراف لمستقبل من العنفوان والإباء، وذلك بعدما تم تخريب الروح المعنوية لجيل من شباب لقّنتهم قيادات السلطة أن "الحياة مفاوضات"، ولم تدب فيهم روح الثورات العربية بعد ليدركوا أن "الحياة تضحيات".
تأتي هذه الجريمة السياسية كتتويج لمرحلة طويلة من ترويض الناس على مفاهيم الردة على نهج "الكفاح المسلح" ضد الاحتلال، واعتناق فلسفة "الانبطاح السلمي"، وقبول تلقّي رصاصه الغادر بصدور عارية، مما يكشف لكل ذي بصيرة أن فلسطين قد ابتليت بقيادة سياسية رسمية لا تكترث بانهمار دماء أبنائها ولو تفجرت أنهارا على أيدي جيش الاحتلال وعصابات المغتصبين، ولكنها تحرص كل الحرص على الحفاظ على كل قطرة دم من دماء مغتصبي الأرض، ولو نتيجة جرح بسيط، كيف لا وقد تعهد الرئيس أن "ينهي عذابات اليهود"، وزرع في أجهزته عقيدة أمنية مبنية على هذا الأساس.
وأمام شرفة الأمم المتحدة تجثم السلطة الفلسطينية على ركبتيها خاشعة مستجدية اعترافا بدولة على الورق، بعدما حققت أسوأ صفات الأنظمة العربية، والتي تتمثل في القمع وفتح السجون، وفي سجلات عريضة من الفساد، وفي تسلط فئة مسترزقة على الأرض والإنسان، وفي خدمات لا تفي باحتياجات الناس، حتى على مستوى توفير ماء الشرب، حيث وقعت هذه السلطة صك التنازل عن حق ضخه من باطن الأرض بعد مسيرة تفاوض فاشلة (بعد بطلانها). فأي دولة يمكن أن يحلم بها شباب مضلل، وهي دولة صممت لتبقى تحت الإنعاش ولم تتجاوز صفاتها مستوى أنها "قابلة للحياة"!
لا بد من وقفة تفكير جادة لكل شاب ضللته مشاعر وهمية حول إقامة "دولة فلسطين"، ليدرك أن التحرير من الاحتلال هو الذي يعيد السلطان على الأرض، بينما لن تسهم كل قرارات الأرض في زحزحة مغتصب عن "حاكورة" في فناء بيته.
ولا بد أيضا من وقفة وعي لكل من جنّدته السلطة من رجالات المؤسسات العامة والأهلية، ليدركوا أنه: رُبَ وقفة سياسية لا يلقي لها الرجل بالًا تلقي به في "مزبلة التاريخ"، ورُبَ يافطة تأييد سياسية يرفعها أمام مؤسسته لا يلقي لها بالًا تشهد عليه أمام الأجيال القادمة أنه حمل "الخيانة وجهة نظر" واحتشد حولها، ورُبَ مشية في مسيرة تنادي بدولة على الورق وتقبل بشرعية الاحتلال تلقي به في جهنم سبعين خريفا، ليس واحد منها كهذا الخريف السلطوي.
ومن الجدير هنا استحضار الشعار الذي برر على أساسه المفاوضون مسيرة التنازل، إذ قالوا "خذ وطالب"، اليوم لم يعد لهذا الشعار محل، إذ الحديث عن عدم نزع شرعية الاحتلال، وبالتالي سقوط كلمة "طالب" من الشعار، وخصوصا وحديث القيادات السلطوية عن حل نهائي ليس بعده مطالب. وصار مفهوم العمل أو الشعار "طالب بالاعتراف لعلك تأخذ شيئا بعدما أعطيت المحتل كل ما يريد".
إنها دعوة لتأمل المشهد السياسي البشع والحالة الفكرية المنحرفة من أجل استنارة قبل أن لات حين مناص، وخصوصا أن الاعتدال الخريفي يتساوى فيه الليل والنهار، ولكن خريف السلطة تغلب فيه حلكة الليل على ضوء النهار، ولا تريد السلطة أن تشتعل الناس لتعيد الضياء إلى الأزقة التي حشرتها السلطة فيها.
ومع الاعتدال الخريفي تكون الشمس منطبقة تماما على خط الاستواء، ولكن مع خريف السلطة ليس ثمة من شمس تضيء، ولا من خط استواء بعدما بعثرت قيادات التفاوض كل الخطوط وخربشتها، وصار الاعوجاج هو أساس العمل السياسي.
ومع الاعتدال الخريفي تقدم الشمس من نصف الأرض الشمالي معلنة بدء الخريف فيه بينما يطل ربيع في النصف الجنوبي. أما في الخريف السلطوي فقد زحفت السلطة لنصف الأرض الشمالي لتعيش الخريف الغربي، بينما تعيش الأمة في ربيعها "العربي"، في أرض أخرى كأنها لا تنتمي لهذا الخريف. وبذلك قررت السلطة أن تنفصم عن الأرض التي تعيش عليها الأمة الإسلامية، وأن تنخلع عن التاريخ الذي تنتمي له الأمة، لتقف ذليلة مستجدية في أرض الخريف الشمالي.
وأمام هذه اللحظة التاريخية، ما أحوج القيادات الفتحاوية التي لا زال بعضها يظن أنه يحسن صنعا، أن ترقب لحظة الشروق ولحظة الغروب في يوم الاعتدال الخريفي القادم لتعيد ضبط بوصلتها التي تاهت في أزقة التنازلات، لأن الشمس تشرق في ذلك اليوم عند الدرجة 90 تماماً لتدلل على نقطة الشرق بدقة، وتغرب تماما في نقطة الغرب الحقيقي، لعل تلك القيادات تقرر أن تولي وجهها شرقا شطر الأمة وتستدبر الغرب وألاعيبه.
وقبل انتهاء المشهد الدرامي، لا بد أن السلطة التي قبلت خوض تجربة الاعتدال الخريفي، تدرك وتخشى ما يتبعه من انقلاب شتوي لا يبقي منها شيئا ولا يذر، وخصوصا عندما تقرر الأمة أن تستلم زمام القضية من جديد وتعيد منطلقاتها إلى أصلها الحق.
20/09/2011