بأي ميزان نزن أردوغان؟!

إبراهيم الشريف- عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين.

إن أمة ترضع العزة من آي قرآنها وعاشت قرونًا تتفيء ظلالها ، لا يمكن أن تكبت عقود الحكم الجبري إحساسها النابض بها وشوقها العظيم إليها؛ لذلك فالأمة تتلمس الطريق إلى عزتها لحظة بلحظة وتتحسسه في كل موقف قد تفوح منه بعض رائحتها، ولكن لما غُيبت المقاييس الأصيلة، تاهت بالأمة الدروب ولهثت مضبوعة وراء من ضلوا بها عن السبيل، من زعماء عزفوا جيدًا على وتر المشاعر فأطربوا أسماعها وأسروا قلوبها ولكنهم زيفوا إحساسها-إلا من رحم الله منها-، مثلما كان يفعل عبد الناصر، ومثلما فعل صدام ومثلما كان يفعل عرفات أحيانًا ..

وها نحن أولاء اليوم أمام حالة تأييد مشاعري متنامية لرئيس الوزراء التركي رجب أردوغان، حتى صار بعضهم يشبهه بالسلطان محمد الفاتح أو بحفيد العثمانيين وغير ذلك من التشبيهات، وبغض النظر عن المدى الذي وصلت إليه فإنها حالة يجب الوقوف عليها.

فمن المواقف التي يحسبها له من يصفه بالسلطان أردوغان: موقفه مع شمعون بيرس وانسحابه من مؤتمر دافوس، وعدم السماح بمشاركة (إسرائيل) في المناورات العسكرية المشتركة لحلف الناتو التي أقيمت في تركيا، وتصريحاته ضد (إسرائيل) بعد أسرها لسفينة "مرمرة" وقتلها 9 أتراك في المياه الدولية، ثم "تجميد" العلاقات التجارية العسكرية والدبلوماسية ومطالبتها بالاعتذار ورفض تقرير بالمر.... ويعتبرونها مواقف مشرفة في ظل هذه الأوضاع وأنها أكثر المستطاع وتبدد ولو شيئًا من مسلسل الذل والإهانة الذي تعيشه الأمة، ويعتبرون الرجل زعيمًا يستحق أن يمتطي صهوة القيادة وتنساق الأمة خلفه مؤيدة لخطواته ومباركة لانجازاته..

والحقيقة أن قراءة الواقع السياسي يجب أن تكون قراءة واعية مجردة عن المشاعر، والحكم عليه يجب أن ينبني على قواعد ثابتة، بمعنى أنه يجب أن نفهم الواقع كما هو لا كما نحب، وأن الحكم عليه يجب أن ينبني على العقيدة الإسلامية لا أن ينبت في مراكب تتلاعب بها الأمواج والرياح، وإلا فقدنا وعينا وتم سوقنا إلى المهالك ونحن نهلل ونستبشر، نرى الأمر نحسبه عارضًا ممطرنا فإذا هو ريح فيها عذاب أليم!

وإنه لا ينبغي أن تسمح الأمة لأحد بخداعها وإدخالها في حالة تستنزف من طاقاتها وقدراتها ووقتها وأملها ثم تعود مخذولة يائسة، خاصة وأن بين يديها كتاب ربها الذي أنزله هدى ونور فلا تضل ما اتخذت مقاييسها وأحكامها منه وبنت أفكارها على أساسه.

وللوقوف على حقيقة مواقف أردوغان بخصوص قضية فلسطين المحتلة مثلاً، نسأل هل يتحرك أردوغان في مواقفه من منطلق إسلامه أو من أجل إسلامه أم من منطلقات أخر؟، فهل أردوغان لديه مشكلة مع (إسرائيل) التي تحتل أرض الإسراء والمعراج؟ وما طبيعة هذه المشكلة؟

الواقع المشهود أن أردوغان لا يرى مشكلة في احتلال حوالي 80% من فلسطين، بل ويعتبر (إسرائيل) دولة شرعية، ولا يزال يعترف بحقها في الوجود على أرض الإسراء والمعراج، وينادي بحل الدولتين الأميركي،  ويحرض حماس على الاعتراف علنًا بـ(إسرائيل)!، وإنما يرى المشكلة فقط في المستوطنات لأنها تشكل عقبة أمام "السلام" (حل الدولتين-خطة تصفية قضية فلسطين وإنهاء الصراع).

 وعندما تحدث عن حرب غزة تهرب تمامًا من زاوية النظر الإسلامية واعتبر أن حديثه في دافوس جاء من منطلق إنساني-وليس من منطلق الواجب الإسلامي-، وعندما استقبلته الجماهير بعد انسحابه من دافوس وطالبته بقطع العلاقات مع (إسرائيل) رفض معللا ذلك بأن إبقاء العلاقات أولى من قطعها، هذا رغم  المذبحة التي ارتكبها كيان الإرهاب والإجرام في غزة ولما يمر عليها أسبوعان بعد.

 ولو كانت لدى أردوغان مشكلة مع (إسرائيل) بعد حرب غزة لما جلس بجانب بيرس أصلا ولما كانت حادثة انسحابه حفاظًا على كرامة تركيا كما قال لأنه لم يعط فرصة الحديث كما بيرس، كما أن أردوغان سارع ودون طلب منه بإرسال طائرتي إطفاء للمساعدة في إخماد حريق  الكرمل (قرب حيفا المحتلة) وعزّى بقتلى الحريق ولما تجف دماء الأتراك التسعة بعد !.. وبعد صدور تقرير بالمر لم يعلن أردوغان عداءه للاحتلال بل رهن عودة "الصداقة" بالاعتذار فقط، واعتبر أن عدم الرد العسكري على جريمة مرمرة يعبر عن عظمة تركيا!

إن الإسلام الذي هو مقياس الحكم على الأفعال والأشخاص يفرض وبشكل قاطع إعلان حالة الحرب مع هذا الكيان المغتصب قولاً واحدًا، ويعتبر الاعتراف به جريمة كبرى في دين الله، وإقامة أي نوع من العلاقات السرية أو العلنية خيانة عظمى للأمة الإسلامية ولمسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تنخر أساس مسجده الحفريات ليل نهار، ولم تتوقف حملات محاولات تهويده لحظة واحدة.

فأردوغان لا ينظر أبدًا لفلسطين ولأهل فلسطين من زاوية الإسلام وإنما من زاوية مصالح انتخابية وإقليمية نفعية بحتة، ولمن عميت عليه حقيقة منطلقات أردوغان في التعامل مع فلسطين ومع دولة الاحتلال أذكره بأن أردوغان وبعد حرب غزة كان ينوي تأجير 216كم ² من أراضي تركيا لشركة يهودية لمدة 44 عامًا بحجة نزع ألغام، وكان تعقيب سفير (إسرائيل) لدى أنقرة "Gaby Levy" : (إنه لمن الأهمية بمكان لكل يهودي أن يحضر لهذه الأراضي التي حضر إليها أجدادنا وأجداد أجدادنا ) ]المصدر: صحيفة حريات بتاريخ 26/05/2009[، ولما واجهت أردوغان معارضة قال: (أنظر إننا نحل مشكلة البطالة، أولا تحب ذلك! هل نرفض شركة أجنبية لأنها من هذا الدين أو ذاك المال لا دين ولا قومية له)!  ]المصدر: صحيفة راديكال بتاريخ 24/05/2009.[ على عكس السلطان عبد الحميد رحمه الله تعالى الذي كان ينظر من زاوية الإسلام ورفض كل إغراءات يهود المالية وقال قولته المشهورة ووقف موقفه المشهود.

ولا تتضح مرجعية أردوغان من تعامله مع قضية فلسطين وحسب، فعلاقته بزعيمة الشر في الكرة الأرضية وعدوة الإسلام والمسلمين "الولايات المتحدة الأميركية"  علاقة تحالف معلن ضد ما يسمونه الإرهاب "الإسلام"،  وقد قام أردوغان بتسليم قيادات مجاهدة لأميركا مثل الشيخ عبد الهادي العراقي بعد أن وافق على طلبه اللجوء السياسي في تركيا، كما أن تركيا عضو في حلف الناتو وتسلمت قيادة الحلف الذي يشن حربًا صليبية في أفغانستان، وقد امتدحه المجرم بوش وامتدح تجربته (تجربة العلمانية المعتدلة) وطلب تعميمها في المنطقة!

كما أن أردوغان طلب من أميركا نشر أسطول طائرات بدون طيار على أراضي تركيا بحجة محاربة الأكراد ولكنها في الحقيقة ستكون منطلقًا لقتل المسلمين في العراق إذا ما انسحبت منه، وكان حزبه قد وافق على استخدام أميركا لقاعدة انجرليك الجوية في حربها على العراق وأفغانستان والتي تقول منظمة اتحاد علماء أميركا عنها أن أميركا تخزن فيها 90 صاروخًا نوويًا، ووافق على نشر رادار لحلف الناتو في تركيا، تحت غطاء كثيف من التصريحات التي داعبت مشاعر كثيرين ممن يحبون الإسلام ويبحثون عن رائحة العزة بلا وعي.

ومن الملاحظ أن كل تحركات أردوغان في المنطقة تحظى بدعم حليفته أميركا، فنراه يكيل التصريحات و"يجمّد" –وليس يقطع- العلاقات مع (إسرائيل) ويتحدث عن تحركات لأسطول البحرية التركية ويعتبر تقرير بالمر كأنه لم يكن ويثير زوبعة، ولا نرى رفضًا ولا تأنيبًا ولا تهديدًا رسميًا من أميركا لتركيا بل نرى مزيدًا من التحالف والتوافق خصوصًا حول موضوع سوريا وإعطاء بشار الفرصة تلو الفرصة.. والواضح أن أميركا اتخذت من أردوغان عرّابًا جديدًا لسياستها في المنطقة، ولتضغط من خلاله على (إسرائيل) لوقف عنجهيتها وإحراجها المتكرر لأوباما الضعيف، وحسب صحيفة يني شفق فإن بوش الابن قرر جعل أردوغان عمودًا فقريًا للمشروع الأميركي في المنطقة وطلب منه أن يرسل وعاظًا وأئمة إلى أنحاء العالم الإسلامي ليبشروا بنموذج الإسلام المعتدل التركي (العلمانية المعتدلة)] يني شفق 30-1-2004[

إن أردوغان الذي تستقبله الجماهير في مصر مطالبة بالخلافة ويردها محببًا إليها العلمانية ومكرهًا إليها الخلافة لا يمكن أن يعبر عن إحساس الأمة الحقيقي النابض بالإسلام، فهو علماني وفي حزب علماني ويقود دولة علمانية وتعهد باحترام العلمانية ومبادئ أتاتورك وعدم تقديم تنازلات بشأنها، هذا الحزب الذي ينص في مقدمة برنامجه السياسي على أن :  (حزبنا يعتبر مبادئ أتاتورك والإصلاحات أهم وسيلة لرفع الرأي العام التركي إلى مستوى الحضارة المعاصرة)، ثم يطير إلى تونس ليعيد الكرة هناك ويبشر بعلمانيته المعتدلة ويقول بأن الديمقراطية والعلمانية لا تتعارضان مع الإسلام بزعمه! بدعوى أن العلمانية تقف على مسافة متساوية من جميع الأديان، فساوى بذلك بين الإسلام وغيره وجعل السيادة لغير الإسلام في الدولة، وكأن الله لم ينزل قرآنًا ليحكم به ويكون ظاهرًا على الدين كله.

فهذه القرابين التي يقدمها أردوغان لأميركا بترويجه لأفكارها ومشاريعها في بلاد الثورات، ومحاربة العمل السياسي لإقامة الخلافة، وقربان إلغاء قانون تجريم الزنا وجعله مباحًا، أمام معبد الاتحاد الأوروبي لن تزيده إلا بعدًا عن الأمة وستنقشع غيوم تضليله بأسرع مما يتصور.

وإذا تحدثنا عن تجربة أردوغان ونجاحها في تحسين الاقتصاد كما يقال، فإن هذا النجاح لم يكن مبينًا على أسس صحيحة ولا أسس ترضي الله، ومثال تأجير أراض تركية ليهود لمدة 44 عامًا واضح فيه العقلية الأردوغانية النفعية العلمانية، وتحسن الاقتصاد في تركيا إنما بمساعدة حليفتها أميركا لتهيئتها لدخول الاتحاد الأوروبي والانسلاخ عن العالم الإسلامي، وذلك لما لأميركا من مصلحة اختراق الاتحاد الأوروبي بدولة حليفة مثل تركيا.

إن المسلمين بما أكرمهم الله من قرآن كريم وسنة مطهرة وتاريخ حافل بالعزة والكرامة وقيادة المسرح الدولي، يجب أن لا يرضوا إلا بما يرضي الله، وليس بما يسمح به الواقع ولا يغضب أعداء الله، فإن في هذا خطر شديد على سفينة الإسلام، ولو كان أردوغان يسير أصلاً في الاتجاه الصحيح ثم قصرت به الهمة عن القيام بكل ما يلزم لعذرنا قليلاً من يهللون له، ولكن الواضح أن اتجاه سير أردوغان هو عكس الاتجاه الصحيح أصلاً، بل هو باتجاه أميركا عدوة الإسلام والمسلمين، فلم يعادي أعداء الله بل والاهم فوالى أميركا ووالى (إسرائيل) وعزز وجودها و ساهم في قتال المسلمين في العراق وأفغانستان، وجعل من نفسه صنم العلمانية الحديث.

وإن عصمة الأمة في التمسك بحبل ربها، والتمسك بدين ربها يكون بعدم الرضا عن أي نظام سوى نظام الإسلام، وعدم اتخاذ مقاييس إلا مقاييس الإسلام في الحكم على الأفعال والأشخاص، وعدم تأييد وموالاة أي حاكم لا يحكم بما أنزل الله ويوالي أعداءه مهما ادعى وتفنن في ادعاءاته، فإن اتخذنا ميزانًا للحكم على الأشخاص والأحداث غير ميزان الإسلام ضللنا وسخط الله علينا، وأما إذا ما اتخذنا ميزان الإسلام ميزانًا هدانا الله السبيل ورضي عنا وأرضانا ويسّر لنا إقامة دولة القرآن التي تحفظ الإسلام وتطبقه وتنشره وتعلي شأنهم، وتستعيد ثرواتهم المنهوبة وكرامتهم المسلوبة.

30/9/2011