طريقة واحدة لإخماد الثورات !!!
الدكتور مصعب أبو عرقوب
"هؤلاء جاؤوا بالعدل، والعدل تربة تموت فيها الثورات، أما غدا، إذا ما ظهر منهم الظلم فستشتد ثورتنا، ونجد من يؤازرنا"، تلك حقيقة سطرها بكلمات مقتضبة أمير اسباني في الأندلس عشية فتحها، فقد لمس الإسبان ذلك العدل الذي حمله الفاتحون، وتلك القيم الإنسانية التي بهرت البشرية واستمالت العقول، وقد صدق ذلك الإسباني نفسه وشعبه بإقراره بعدل الفاتحين، واستصعابه الثورة ضدهم في ظل ما جاؤوا به من عدل.
وعلى النقيض من ذلك فإنّ الظلم الذي جاءت به الأنظمة الحاكمة في العالم العربي شكل تربة خصبة لاندلاع الثورات التي نعيش، وحمل بذور ثورة لن تهدأ إلا ببزوغ العدل ورجوع الأمور إلى موازينها القسط، فقد قُسمت أمة واحدة إلى دويلات إقليمية متناحرة على خريطة سايس بيكو، وسُلبت ثرواتها واحتلت أرضها ومقدساتها، واتخذت الأنظمة التابعة للمستعمر من الظلم شرعة ومنهاج حياة.
فكان الاستعمار ظلم لا مثيل له في تاريخ البشرية، أنتج أنظمة جائرة تتصرف بمقدرات الأمة وكأنها ملك خاص، وتتالت الأحداث ليصبح الظلم مسلسلا ... من تهجير شعب كامل أمام أعين العالم وإبادة قرى كاملة ...إلى المذابح واحتلال الأرض في العراق وأفغانستان إلى قنابل الفسفور في غزة إلى الحصار، إلى الأنظمة والقوانين التي أعطت الشرعية للظلم وجعلت من البلاد وكالات ودكاكين لمافيا العائلات الحاكمة.
وقد وقفت تلك العائلات حارسة على ذلك الظلم وكرسته من خلال شكل الحكم والأنظمة والقوانين والدساتير الوضعية التي ضمنت بقاءها، وارتباطها العضوي بالمستعمر الطامع في بلادنا تحت مسمى القوانين الدولية والمجتمع الدولي، مسميات سلبت الأمة سلطانها وسيادتها واقتحمت عليها ثقافتها، فضيعت فلسطين من خلالها واحتلت العراق تحت ستارها، وقسمت السودان تحت وطأتها، وسرقت الثروات باسمها، ووصف بالإرهابي والأصولي كل من وقف في وجهها.
كل ذلك، شكل التربة الخصبة لاندلاع الثورات، فكان لا بد أولا من إسقاط الأنظمة الحارسة للظلم والمكرسة له، بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ العدل سيضرب أطنابه في بلادنا على الفور، فالثورات لن تخمد حتى" يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه".
فقد تهدأ بعض الثورات حينا، إلى أنها ما تلبث أن تستعر، وتبقى الأمة في حالة عدم استقرار إلى أن تشعر بالعدل واقعا ملموسا في حياتها، ولن يتجسد ذلك إلا بالتخلص من منظومة الحكم البائدة واستبدالها بمنظومة جديدة تكفل العدل والاستقرار وتعيد للأمة مكانتها بين الأمم.
وهنا، تعقد الأمة بأصالتها ووعيها المكتسب من نضالات المخلصين من أبنائها مقارنات ومفاضلات، بين ماضيها وإرثها الحضاري العريق وبين ما يُطرح عليها من نظم وأشكال حكم عقيمة مجربة، فالعدل متجذر في حضارة لا ينسى أهلها قول نبيهم "لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وقول خليفتهم الفاروق "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا "، وغيرها من النصوص والأحداث المحفورة في وجدان الأمة شريعة وطراز عيش مميز.
فتسبق الأمة بنتائج تلك المقارنات ما تقترحه بعض النخب المتحجرة أو الخائفة أو المرتبطة بالغرب من أشكالٍ للحكم أو أنواع من الدساتير التي تعيد تلك الأنظمة من الشباك بعد إخراجها من الباب، فالحلول التوافقية التي تحاول بعض النخب - التي لم تدرك حجم التغيير الذي يجتاح الأمة- أن تفرضه لتحقق به بعض المطالب السطحية وتطمئن به المجتمع الدولي على مصالحه، تبقى تلك النخب في ضلالها القديم الذي وضعها دائما في خانة الأنظمة والمعارضة الدستورية، فهي لا ترى الأمور إلا من منظار المعارضة الدستورية المرتمية في أحضان الأنظمة البائدة والتي تربت على عدم مخالفة الأنظمة والتعليمات والقوانين الدولية وموازين القوى، والخوف من إثارة القوى العظمى.
وتلك الحلول التوافقية أنتجت مجموعة من المفاهيم والمقاييس والتطلعات، تمس جوهر نظام الحكم وطريقة العيش والدستور، وهي مفردات عظيمة كفيلة بإيجاد العدل أو الظلم، فأنظمة الحكم والدساتير التي طُبقت على الأمة الإسلامية وتقترح تلك النخب تطبيقها ثانية بنسخة معدلة، هي نفسها التي جاءت بالظلم والبلطجية ومافيا العائلات الحاكمة وضياع الأرض والثروات .
فجل ما تقترحه تلك النخب لا يعدو رجعا للفكر الانهزامي الخائف من الغرب أو المقلد له، فالغرب لا يمكنه أن يقدم للأمة نموذجا يُحتذى به في الحكم والسياسة، فالمستعمر القديم غرق في أزماته الاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية على وقع نظامه الرأسمالي المادي الذي جعل من الإنسان سلعة رخيصة، ولا يمكن للغرب أن يروج لأفكاره وأنظمة حياته في أمة ذاقت صنوف الظلم والقتل والعذاب في ظلال تلك الثقافة الغربية التي انتجت أبو غريب وقصفت بغداد واحتلت أفغانستان وسكتت وشاركت في قتل الأطفال في غزة وأمدت ورعت كل الأنظمة الدكتاتورية القمعية الظالمة في بلادنا إلى تلك اللحظة التي أحست فيها بعدم جدواها في الوقوف أمام الجماهير الغاضبة.
وقد استنفذت الثقافة الرأسمالية وما أفرزته من ظلم كل مبررات وجودها على أرضنا، وأدركت الأمة أنّ الهيئات الدولية وما تفرزه من قرارات دولية هي أدوات سيطرة وبسط نفوذ ومخالب تنهش ثروات الأمة ومقدساتها، وأنّ الثورة تعني الخروج على كل تلك القيود ، فالحلول المطروحة لشكل الدولة بعد الثورة ودستورها يبقيها دولة إقليمية بحدود سايس بيكو، وبدستور وضعي يبقي الرأسمالية والاحتكام للقوانين الغربية الجائرة أساسا للدولة، والظلم سيدا لبلادنا.
وستبقى رحى الثورات دائرة إلى أن تضع الأمة ما تعتقد من عقيدة وأنظمة حياة موضع التطبيق، فالعدل الذي جاء به الفاتحون الأوائل سببه تطبيق الإسلام ووضع شرائعه موضع التنفيذ في شكل الحكم والقوانين وبذلك تتوحد الأمة وتستعيد مقدساتها وثرواتها وعزتها. فلا عدل إلا بتطبيق شرع الله في الأرض، عندها سيعم العدل عالمنا، والعدل... تربة تموت فيها الثورات.
7-8-2011