الفياضية من جديد: مأزق فلسطيني أم أمريكي
 
الدكتور ماهر الجعبري
يتجمد المشهد السياسي الفلسطيني عند شخصية رئيس الحكومة المقبلة، ومن جديد تتحول شخصية فياض إلى دور البطولة المسرحية. ويبقى هذا المدير المالي "المهني!"، بمفهومه "الإداري" للسياسة، وبتصوره "الخدماتي" للدولة، المحرك لتوجهات الفصائل الفلسطينية والمحدد لرؤاها السياسية نحو مستقبل فلسطين: إذ يصر الرئيس الفلسطيني على الإبقاء على فياض في دور البطولة بينما تريد حماس اكتشاف وجوه جديدة، أو ربما بتعبير مبدئي تلطيخ وجوه جديدة.
قبل أشهر كتبت مقالا حول الفياضية والرؤى الأمريكية، تعليقا على ما ناقشته مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية (Foreign Affairs)، في حينه حول الطريق الثالث: بعد طريق المفاوضات الذي حل محل طريق الكفاح المسلح الذي تخلت عنها القيادات الفلسطينية، كما تحدث التقرير. وخلال الشهر الماضي حصلت المصالحة -أو الملاقحة السياسية- ما بين من يقول أن طريقه المفاوضات وبين من يقول أن طريقه المقاومة، وتم بالفعل الالتقاء عند منتصف الطريق، عندما تم إخراج المشهد بإعطاء المفاوضات فرصة سنة، وتداخلت القاف والسين في كلمتي المقاومة والمساومة، ولم يعد هناك حدّ فاصل -أو خط احمر- لا يمكن تجاوزه في زحف الفصائل نحو مسيرة السادات العريقة. ومع ذلك لا زالت العقدة تقف اليوم عند حد الفياضية !
وتعيد مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية بحث الموقف في تقريرها الجديد (20-6-2011) بعنوان "تمويل الأصدقاء والخصوم في فلسطين"، وهو تقرير يبرز العقدة التي وصلت عندها مسرحية الفصائل بعد مشهد "المصالحة" الذي أُخرج على عجل في القاهرة قبل أسابيع. إنها عقدة التمويل بالمعني الإداري، وعقدة التسول بالمعني الدرامي. ويتلخص التقرير في أنه على الرغم من اتفاق المصالحة بين فتح وحماس، فإنه من المنظور أن تستمر أمريكا في دعم السلطة الفلسطينية، ولكن القانون الأمريكي يمنع بل ويعاقب مساعدة حماس (بسبب التصنيف القانوني للحركة)، ولذلك فإن واشنطن قد تواجه مشاكل في التحرك وفي تجاوز الأزمة.
وأمام هذا التقرير قد يتساءل المتابع: هل نحن أمام عقدة فصائل فلسطينية أم أمام مأزق قانوني أمريكي ؟
ويقرر التقرير الجديد أن تحقيق ديمومة مالية للسلطة الفلسطينية هو نقطة مفصلية لدى واشنطن في عملية السلام وفي أهداف إستراتيجية أخرى: لا شك أن المتابع السياسي يدرك أن أمريكا لن تسمح بالخروج عن النص في أي مشهد من مشاهد الحراك السياسي فيما يتعلق بالقضية، وهذا محدد استراتيجي أمريكي بعد تفردها بالقبض على كافة ملفات القضية منذ سنوات. وهي أيضا تريد بقاء العرض مستمرا –ولو في حراك كاذب- ليعطي انطباعا زائفا حول عدالة أمريكا في حل قضية فلسطين، وحتى تقلل من مستوى التشوّه في صورتها بعدما تلطخت مرارا وتكرارا في مشاهد دماء المسلمين، ولذلك يمكن القول أن تحركات أمريكا فيما يتعلق بحل القضية الفلسطينية تندرج ضمن إستراتيجيتها في مواجهة تحرك المسلمين نحو التحرر من الهيمنة واستعادة وحدة الأمة وكيانها السياسي، ولكنّ سجل البطولات الذي سطّره الاستشهاديون فيما مضى يقف عائقا قانونيا أمام أمريكا في السير للأمام.
إذن من جديد نتساءل: هل نحن أمام موقف داخلي فلسطيني متأزم أم أمام موقف استراتيجي أمريكي ؟
ويؤكد تقرير الشؤون الخارجية الأمريكية أن "أمريكا تشارك في تمويل السلطة بما قيمته 400 مليون دولار سنويا، مما لا يمكن تصور بقاء السلطة بدونها"، والحقيقة أن ذلك ليس دقيقا، إذ يساهم الاتحاد الأوروبي بالجزء الأكبر من الدعم المالي للسلطة، وتحدث فياض قبل أسابيع عن مديونية في حدود مليارين تتحملها السلطة الفلسطينية (رغم كل إدعاءاته ببناء الدولة والتحضير لإعلانها). أي أن مساهمة أمريكا المالية هي جزء من كعكة كبيرة، عمل فياض على إجبار الناس على طبخها بأنفسهم من خلال أموال الجباية الضريبية التي فرضها عليهم بقوة الأمن الذي تموله وتدربه أمريكا، وحمّلهم بقية المصاريف ديونا مليارية، وهذا هو سر نجاح الفياضية بالمنظور الأمريكي.
إذاً، الكل يدندن حول التمويل، ويلوح به كسلاح وأداة في استمرار مشروع السلطة، ولذلك فمن الطبيعي وصف السلطة "بالمشروع المالي" ووصف الحكومة بإدارة حملة تجنيد أموال، وهذا يفسر جمود المشهد الفلسطيني عند الفياضية من جديد، لأن الفياضية هي الطريق "الإداري المالي" الثالث الذي تم جر القضية نحوه، وتم من خلاله تحويل مفاهيم النضال إلى أساليب الاسترزاق، وتم تحويل مفاهيم التضحية إلى مفاهيم المحاصصة على المكتسبات وعلى المؤسسات وعلى التمويل. ومن ثم اختفت قضية التحرير تماما خلف ستائر التمويل، وخلف السعي لتحقيق ديمومة مشروع خدماتي يرتدي ثياب حكومية، ويسير مدراؤه على البسط الحمراء كما يسير الوزراء!
إن قوانين اللعبة السياسية على المسرح الدولي يحددها "الكبار"، وكل من يريد الحراك ضمن هذا المسرح لا يمكنه التقدم قيد أنملة إلا من خلال ما تفسحه تلك القوانين، ولذلك أمام حماس خياران لحل المأزق الأمريكي، وبالتالي حل المأزق الداخلي لمشروع السلطة، إما أن ترفع قضية استئناف أمام القانون الأمريكي لإعادة النظر في تصنيفها، ومسح وصف الإرهاب عنها، وخصوصا بعدما أكد موسى أبو مرزوق أن ترحّم رئيس حكومة غزة على الشهيد بن لادن كان بدوافع شعورية، وبعدما نظّر مشعل لتعدد أشكال المقاومة، مما يمهد الطريق نحو تبني المقاومة الشعبية (السلمية) التي يسير عليها الرئيس الفلسطيني، بل ويشارك فيها بطله المسرحي –فياض- خلال مسيرات الجدار الأسبوعية. أما الخيار الثاني فهو أن تنزل حماس عن الشجرة وتقبل فياض، وتبرر ذلك بمبدأ العفو عند المقدرة، أو أن تعتبر ذلك النزول عن الشجرة "نزولا عند مصلحة الشعب الفلسطيني"، كما نزلت فتح قديما عن الشجرة وأعادت "كرازاي فلسطين" إلى دور البطولة النضالية، بل وتجرعت الفياضية على مضض رغم تكرار تذمر كوادرها الباحثين عن حصصهم في الكعكة.
ولكن شعار الإسلام هو الحل يفرض على كل حركة تحمله –ومن ضمنها حماس- أن تخرج على النص الأمريكي، بل وتتمرد عليه، وأن تخرق كل قوانين اللعبة الدولية، بل وأن تعلن أن جهاد الجيوش هو الطريق الوحيد لخلع الاحتلال من جذوره، وأن تعمل على إعادة القضية الفلسطينية إلى أصحابها الأصليين، وأن تخرج من أروقة قصور الحكام، وأن تلتحم مع ثوار سوريا بدل أن تعانق دكتاتورها المجرم وتصفه بالممانع. وفي هذه الحالة تذوب مسألة الفياضية، وتزول عقدة رئيس الوزراء، دون البحث في حلها، بل ويعود للقضية الفلسطنيية بريقها النضالي ويعود للتحرير طريقه الذي لا يعرف الفياضية ولا الكرازايية.
إن الحل هو في تغيير منطلقات العمل لدى كل المخلصين في الفصائل الفلسطينية، ومسح كل الخطوط التي رسمت الطريقين، والطريق الثالث بينهما، وذلك الحل يقضي بالسير في الطريق الأصيل الذي رسمه الإسلام، الذي حرّم تمكين المستعمرين من الأمة وحرّم منحهم فرصة التحكم في قضاياها، وفرصة تنفيذ برامجهم ومشروعاتهم، بل واعتبر أموالهم إنفاقا في الصد عن هذا السبيل.
فهل يمكن للاعبين على مسرح القضية الفلسطينية من "أبطال" الفصائل الفلسطينية أن يستوعبوا أصول العمل الموصل للتحرير، وأن يتحرروا من خيوط أمريكا وأوروبا التي حولتهم إلى دمى متحركة على شاشات الفضائيات؟
أم يستمر المشهد على جموده حتى تقرر حماس النزول عن الشجرة وحتى تتزاوج كلمتا المقاومة والمساومة في كلمة مقاسمة من جديد في عرس فياضيّ في أحد الفنادق التركية ؟