النكسة ومن قبلها النكبة التي اشتعلت ذكراها هذا العام على خلاف الأعوام الفائتة أتت في وقت سقوط أنظمة هذه النكسة وفي ساعة احتضارها.
فهذه النكسة لم تكن لتمثل الأمة، بل هي نكسة للأنظمة التي قمعت الأمة وحركتها وجثمت فوقها وحاولت أن تركب موجات وترفع شعارات لتبرر شرعية وجودها، فكانت نكبة تلتها نكسة ونكسات.
لقد رفعت الأنظمة شعارات شتى منها الناصرية والقومية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وبسقوط هذه الشعارات فكريا ثم عمليا بحرب عام 67 ، بدأت بعض هذه الأنظمة تعيد صياغة قوالب جديدة لتضفي الشرعية على وجودها واستمرارها، لأنها في الحقيقة لا شرعية لها إلا ما تصطنعه من مواقف تجاه قضايا تحاول ركوبها، فكلها أنظمة غير طبيعية لم تستطع العيش إلا بالقمع والحديد والنار وخلق أساطير من مثل أسطورة الممانعة والصمود والتصدي.
ولكن قضية فلسطين التي فرضت نفسها على هذه الأنظمة، وجدت نظرة مدجنة غربيا غريبة عنها وعن أهلها، فلا هم حقا حرروا فلسطين ولا هم يرون من فلسطين إلا ما أقرته قرارات الشرعية الغربية التي تحاول الحفاظ على استمرار وجود الكيان المحتل.
فدول الطوق ومنها دول الممانعة والتمنع لم تر ضيرا في المطالبة بفلسطين ال 67 أما ما تبقى من فلسطين فهو حلال في نظرهم للمحتل ولا داعي للإتيان على ذكره.
والحاصل أن هذه الأنظمة قد تعايشت مع النكسة التي كانت نتيجة طبيعية لتخاذلها وجعلت منها مبررا للحكم والقمع بحجة أنها دول مواجهة وطوق!.
بل إن نظاما مثل النظام السوري الآيل للسقوط كان ولا يزال يعتاش على هذه النكسة وجعل منها مبررا لوجوده واستمراره، خاصة أنه لا يملك إنجازات داخلية يتكأ عليها في وجوده!.
ويشبه هذه الأنظمة بعض الحركات الفلسطينية التي التصقت بأنظمة إجرامية بحجة دعمها للمقاومة وترسخها، فيما يبدو تواطؤاً مع هذه الأنظمة في استمرار واستمراء أكذوبة الممانعة والتمنع.
ونتيجة لتعايش الحركات الفلسطينية مع الواقع التعيس للمؤسسات الدولية أو ما يسمى بالشرعية الدولية وأمها الولايات المتحدة، وأنظمة لا تزال تدور في فلكها مثل النظام السوري والإيراني، نرى هذه الحركات التي التصقت بشعار الممانعة والمقاومة المؤقتة قد استمرأت العيش في ظل النكسة.
فهي وللأسف الشديد نتيجة التصاقها بأنظمة النكسة قررت أن تعيش ظروف هذه النكسة وتصبح جزءا أصيلا منها ومن الأنظمة التي سببت هذه النكسة ومن قبلها النكبة.
فالحركات الفلسطينية اليوم تكاد تكون مجمعة على إفرازات النكسة وهي المطالبة بفلسطين النكسة المقررة بما احتل عام 67، وبذلك تكون أقرت بالفعل قبل القول أن هذه الحدود هي حدود فلسطين وللغاصب الحق في الوجود على ما تبقى من فلسطين.
ومثل هذه الحركات أيضا الحركات التي ارتبطت بنظام منتن كالنظام السوري، فحزب الله مثلا وهو حزب ولاية الفقيه في طهران كما يصرح عن نفسه، لا يرى أنه يتحمل أية مسؤولية تجاه إخوته في فلسطين عندما قصفت غزة وروعت واكتفى بمطالبة مصر باتخاذ موقف يدعم غزة، بينما لم ينبس ببنت شفة على الجيش السوري الذي لم يطلق طلقة واحدة باتجاه "إسرائيل" منذ عقود.
بل إن تقعر حزب مثل حزب الله داخل الحدود الوطنية اللبنانية التي احتلت عام 67، كاد يوقعه في شرك صعب عليه، متعلق بمصير سلاحه إن تم تحرير مزارع شبعا، فلو كانت مزارع شبعا سورية مثلا فلا يحق لحزب الله حسب هذا التقعر أن يحتفظ بسلاحه لأن الأراضي اللبنانية محررة، وكونها أعلنت لبنانية فاستمرار احتلالها يبرر احتفاظ حزب الله بسلاحه؟
وهذه نتيجة طبيعية لمن ألصق نفسه بحدود عام 67 أو حتى بحدود وطنية جاءت لتفصّل لكل قطر قضاياه وسياساته.
إن ما لا تعيه هذه الحركات أن التصاقها بأنظمة مثل النظام السوري، وهو أحد أنظمة النكسة، إنما سيجعل مصيرها مثل مصيره وسيؤثر سقوطه عليها تأثيرا كبيرا، فالركون إلى نظام منهدم قد يأخذ في طريقه ويسقط كل من ارتكز عليه، والأمثلة شاهدة للعيان.
فموقف حزب الله من دعم النظام السوري قد جر عليه كره أهل سوريا له، ولو أحسن التفكير لما ركن إلى نظام متساقط أو نظام يمثل الأقلية في بلاد يعشق أهلها التضحية بصدورهم العارية أمام بطش طاغوت زائل لا محالة.
أما مواقف الحركات الفلسطينية التي تركن إليه فعديدة وكثيرة.
لعل أبرزها موقف حركة حماس مثلا، التي اعتبر قادتها ذات يوم تأييدهم لخيار السلام الذي رفعه النظام السوري مع المحتل صمودا وممانعة ووو، وسبحان الله... فما الفرق بين أن يرفع عباس أو النظام المصري البائد مثلا ويعلن أن خياره السلام مع "إسرائيل"، وبين أن يرفع النظام السوري الشعار نفسه، فهو إن أتى من سوريا فهو خير ودليل قوة موقف القيادة السورية التي اغتيل الكثيرون على أراضيها من بعض المتنفذين في نظامها أو من حلفائها على يد المحتل دون أن تحرك ساكنا، أما إن جاءت الدعوة إلى السلام من غير النظام السوري فهي خيانة وتفريط !؟
عدا أن التصاق قادة حماس بالنظام السوري ربما عودهم على نظرية الرد في المكان والزمان المناسبين وجعلهم يبررون أن غزة لا داعي للمقاومة فيها طالما أنها "محررة"! فهم لا يريدون أكثر من حدود عام 67 والتي بقي محتلا منها بحسب نظرهم الضفة الغربية والقدس وبالتالي يجوز المقاومة فيهما، أما ما بقي لا داعي للمقاومة فيه أو منه، فهي بالتالي تجعل من نفسها حركة نكسة تقبل بحدود نكسة عام 67 ولا أكثر من ذلكـ كما ترضى الأنظمة ومنها النظام السوري بانسحاب المحتل من بعض حدود 67.
والذي يجمع بين الاثنين من حركات وفصائل النكسة سواء الفلسطينية أو اللبنانية أن إعلامها يكاد يكون مساندا وداعما للنظام السوري، فهو إما مغلق على عينيه على ما يحدث من إجرام هناك، وإما مبرر لهذا الإجرام بحجج تطلقها أبواق النظام السوري "سلفيين، مندسين ...الخ..".
عدا عن محاولة تشويه أو كتم صوت كل من يعارض النظام السوري، ويكفي للدلالة على ذلك متابعة قناة المنار المدافعة عن النظام السوري، بل إن الحكومة الربانية التي تتبع حركة حماس في غزة قد حاولت منع مسيرة ضد النظام السوري انطلقت في غزة وحشدت لها الحشود الأمنية والباصات من أجل الاعتقال، ثم خرجت المسيرة وانطلقت وتلي البيان الختامي بها تحت وقع هراوات وعصي المتوضئين المجاهدين المدافعين عن نظام التمنع في سوريا، وكأن المسيرة لو خرجت من غزة فستحسب على حركة حماس مع أن المسيرة من تنظيم حزب التحرير الذي لا تربطه أية علاقة بالحكومة لا في غزة ولا في الضفة ولا في غيرها .
والتشابه العجيب بين هذه الأنظمة المنكوسة كالنظام السوري والحركات من مثل الحركات الفلسطينية، أن كلا منهما يجعل من كل هزيمة -و بقدرة ساحر- نصراً كبيراً يحتفل به ويتراقص كل منهم حوله.
فنكسة عام 67 والتي سلم فيها حافظ أسد الجولان للمحتل تسليما، اعتبرها النظام في حينه نصرا مؤزرا، فلم يستطع العدو أن ينال من النظام فلا بأس أن تذهب الأرض و العرض وأن تباد فرق من الجيش السوري مقابل أن يبقى النظام، وفعل مثل النظام السوري كثيرون..
لقد هتف أهل مخيم اليرموك ردا على مسايرة الجبهة الشعبية القيادة العامة وغيرها من الحركات للنظام السوري الذي تعود أن يحارب "إسرائيل" حتى آخر فلسطيني وحتى آخر لبناني، بينما فرقه العسكرية تذبح العزل المنتفضين في حمص وحماة ودرعا وغيرها، فكانوا يقولون ردا على مواقف هذه الحركة "الشعب يريد إسقاط الفصائل" وهو شعار سيتحول إلى حقيقة طالما بقيت هذه الفصائل متقعرة في إطار النكسة وفي إطار حدود عام 67 ولا ترى أفقا أبعد منها، بعدما قامت وجمعت الناس حولها وكان شعارها سابقا من النهر إلى البحر،
فلتعد هذه الفصائل إلى رشدها وتنعتق من تبعية أنظمة النكسة والنكبة قبل أن تسقط معها، وإلا فان الشعب سيسقط هذه الفصائل من قلبه ثم من حياته.