الغرب ينكمش أمام الثورات في البلدان العربية
إذا كانت الثورات المباركة التي تجتاح المنطقة العربية تبشر بعصر جديد للمنطقة فيه الكثير من الآمال، فإنها نفسها أي تلك الثورات تكشف انكماشاً جديراً بالملاحظة في المشهد الغربي على الساحتين الأوروبية والأمريكية. وهذا كله يشير الى نتائج تظهر آثارها على الأرض في أنّ عملية التآكل للعظمة الغربية قد أخذت مدىً ينذر بانحدار سريع. وليس معنى ذلك أنّ الثورات العربية تقود الى ذلك الانكماش في الغرب، بل الأدق أنها تتزامن معه من ناحية، وتعمل على تعميقه من ناحية أخرى. والمسألة فيها وجه شبه كبير بين حالة الأمة الاسلامية التي كانت آخذةً في التردي إبان الدولة العثمانية، وانكشف ضعفها وتعمق عندما تزامن ذلك مع النهضة الأوروبية قبل ثلاثة قرون.
بلغ من ذروة العظمة الأمريكية أنها كانت قد أنشأت دائرة لخلق الصراعات حول العالم لتقوم بادارتها بما يفيدها ويعزز من مصالحها في العالم، وكان ذلك بارزاً في العقود الثلاثة الأخيرة. واليوم يشاهد الناس اللطمات التي تعرض لها النفوذ الأوروبي عن طريق الثورة التونسية، فخسرت أوروبا نفوذاً كبيراً في تونس، لكن المشاهد يرى أيضاً أن النفوذ الذي خسرته أووربا لم ينتقل الى الكفة الأمريكية. وفي مصر صفعت ثورة الشباب والشعب المصري واحدة من أهم مراكز النفوذ الأمريكي في العالم، وكانت الصدمة الأمريكية واضحةً للعيان، وهنا لم تستطع الولايات المتحدة وقف انهيار أركان نفوذها في مصر من ناحية، ومن ناحية أخرى لم ينتقل النفوذ الذي خسرته أمريكا في مصر الى كفة الأوروبيين. واستمرت هذه الحال الجديدة في الأزمة الليبية، فأووربا تخسر، وتتوفر التربة الخصبة للعبث الأمريكي بمقدرات ليبيا، لكنها لم تتقدم، ويستمر نزيف النفوذين الأمريكي والأوروبي بشكل يحتاج الى وقفة. صحيح أنّ الأمة الإسلامية قد أخذت تشق طريقها نحو القوة، وصحيح أنّ معالم هذا الطريق غير واضحة حتى الآن، لكن المؤكد والأوضح أنّ هذه الأحداث تكشف عن حالة جديدة في الغرب.
وليس المقصود هنا أنّ المستعمرين على جانب الأطلسي يفقدان من نفوذهما في هذه المناطق الحساسة من العالم، حيث الطاقة النفطية وخطوط نقل النفط والمخاطر الأيديولوجية، بل المسألة هي أبعد وأخطر من هذه، خسارة النفوذ في تونس ومصر وليبيا.
يلاحظ المشاهد للحالة الأمريكية أنّ العقدة العراقية قد عمقَت من الانحدار الأمريكي، وليس المعنى هنا أنّ القدرات العسكرية والسياسية قد اضمحلت في أمريكا بسبب الحربين في العراق وأفغانستان، وإن حصل ذلك، لكن الأهم أنّ الإرادة الأمريكية قد فقدت صلابتها وحماستها للتدخلات الخارجية. فأمريكا لا شك تمتلك القدرة على فرض حظر جوي على طيران القذافي في ليبيا، ولا شك أنّ ذلك يمثل لها فرصة نادرة للاتصال وبناء النفوذ في ليبيا على غرار تدخلاتها العديدة حول العالم، لكنها تخشى من التورط. وإشارة الى هذه الخشية يقول وزير دفاعها غيتس بأنّ علينا أن نسمي الأمور بمسمياتها، فإنّ فرض الحظر الجوي في ليبيا سيبدأ بقصف الدفاعات الأرضية، وهنا مكمن الخطر، فقد تقود الأحداث إلى جر الولايات المتحدة إلى الورطة، وإذا ما أخذ بعين الاعتبار أنّ مهمة غيتس كانت الخروج من الورطة العراقية، وبسبب حسن أدائه في ذلك فقد أبقاه الرئيس أوباما في منصبه بعد انتخابه خلفاً لبوش الابن، وفي ذلك اشارة قوية على الرضى عن أداء غيتس في عملية اخراج أمريكا من ورطتها في العراق، وفي الشعارات التي نادى بها أوباما. والمسألة ليست في الشعارات وحدها، بل إنّ السياسة الأمريكية قد صارت موحدةً في هذا الاتجاه بعد الفترة الثانية لولاية جورج بوش.
والاشارات الصادرة عن واشنطن والتي تنم عن الصدمة العميقة لا سيما من الثورة المصرية، تلك الاشارات التي يمكن وصفها بقلة الثقة والتناقض أحياناً، والاعتبار المتعاظم لآراء الدول الأخرى، والخوف الكامن من الورطة، كل ذلك قد أفقد الولايات المتحدة الحماسة اللازمة للتدخل المؤثر، وعندما تطول مثل هذه الحالة فإنّ الدولة تصاب بعدم الاكتراث لتطورات الأحوال العالمية حتى تصير تلك التحولات على درجة من التعاظم بحيث يستحيل معها تدخل تلك الدولة الكبرى لرد الأمور الى حالتها السابقة، عندها تفقد تلك الدولة مكانتها بشكل عملي، وتبرز القوى الأخرى لا سيما الجديدة والشابة. وإذا كانت هذه هي حال الولايات المتحدة، فإن الحال الأوروبية أضعف من باب أولى، فأووربا لا يمكنها التدخل المنفرد بشكل حاسم، بل لا تمتلك الدول الأوروبية القدرات العسكرية اللازمة للانفراد بالنفوذ حتى في محيطها المتوسطي.
وإذا ما أعدنا إلى الأذهان أنّ الأزمة المالية العالمية قد قضت من مضاجع كل من أوروبا وأمريكا، فأفقدتهما الثقة في مؤهلاتهما للقيادة العالمية، أي ظهر إفلاسهما عبر العالم بالخسائر الدولية الهائلة التي جرت اليها أزمة الرهن العقاري الأمريكي والأزمة المالية بعد 2008، وهذا النوع من الأزمات التي أساسها فكري، فإنه يضرب العقلية القيادية التي اقتنعت عملياً عبر تلك الأزمة بعجزها وضعف حيلتها، وإذا أضيف إلى كل ذلك جرائم حقوق الانسان الأمريكية والأوروبية في العراق وأفغانستان فإننا نشاهد الآن صورة لأمريكا وأوروبا تتحول، وهذه الصورة المتحولة لم يجبرهم عليها أحد، بل إنّ انكشاف سياستهما الدولية وفقدان الثقة بالمبادئ التي تقوم عليها هذه الساسيات قد جعل تحولها ذاتياً. وربما كانت هذه الصورة التي نتحدث عنها فيها الكثير من الشبه من صورة العملاق السوفييتي الذي لم يخسر حرباً عالميةً، لكنه اندثر ذاتياً واختفى من الخريطة السياسية للدول العظمى، وكان ذلك عندما رأى القادة السوفييت عجز الاقتصاد المبني على الاشتراكية عن انهاض روسيا الاشتراكية لتظل تنافس العملاق الأمريكي، ففقد أولئك القادة الثقة بذلك الاقتصاد وقرروا أنّ غورباتشوف هو أصلح من يقود تلك المرحلة الانتقالية. صحيح أنّ التفكير السوفييتي الجديد وقتها كان بسبب تربص الولايات المتحدة بالقدرات العسكرية والسياسية السوفييتية، فكان الانحدار سقوطاً تسارع في فترة وجيزة. أما الغرب اليوم، فليس أمامه في الواقع من يهدد بغزو بلاده، وإن كان يرى المخاطر الأيديولوجية الكامنة في العالم الاسلامي، لذلك فإن انحداره يظل بطيئاً حتى يحدث الله أمراً كان مفعولاً.
عصام الشيخ غانم
10-3-2011