لا زالت أحداث مصر في تصاعد مستمر، ولا زالت وتيرة المغالبة تشتد وتستعر؛ أمة تريد التخلص من قيود كبلتها فأرهقتها وألصقتها بالأرض وجعلتها عالة على التاريخ وهي خير الأمم، وحكام متشبثون بكراسي الذل حتى الرمق الأخير.
لقد ضجت شوارع مصر بمسيرات مكثفة من الناس احتجاجاً على ظلم النظام وجوره، ولقد طفح الكيل بأهل مصر وهم يشاهدون نظاماً أحاطهم بالقهر والكبت طوال عقود، وكمَّم أفواههم، وأدخل الرعب في قلوب الناس بالاعتقال والتعذيب المفضي للهلاك والموت على أيدي زبانية النظام في السجون...وكذلك شهدت تونس من قبل أحداثاً مشابهة ولا زالت ذيولها قائمة على أصولها، ومن المرشح أن تنتقل عدوى التغيير لبقية البلدان العربية لما تشهده هذه البلاد من ظروف متشابهة.
ولا يخفى على أحد أن الأمة اليوم، من أقصاها إلى أقصاها، ترقب هذه التطورات وتتطلع بشغف لتغيير تلك الأنظمة التي جثمت على صدرها ردحا من الزمن، فأذاقتها لباس الجوع والخوف، وانحدرت بالأمة عن المكانة اللائقة بها، فبات المسلمون في ذيل الأمم، لا يلوون على شيء، دماؤهم مهدورة، ثرواتهم منهوبة، وهم خير الأمم وبلادهم اغنى البلدان.
وإزاء هذه الاحداث الجسام لا بد لنا من الوقوف على الحقائق الهامة التي كشفت عنها هذه الاحداث، لتكون منارات لنا في الطريق، ولنسطرها كحقائق نطق الواقع بصدقها بعيداً عن جدلية الألدّاء وخصومتهم.
ومن هذه الحقائق:
• إن السلطان هو للأمة، وإن الحكام كانوا ولا زالوا يغتصبون هذا الحق، وإن الامة بيدها أن تسترد هذا السلطان، إن هي عزمت أمرها وتوكلت على ربها ولم تخش أحداً، فلها وحدها دون سواها أن تختار حاكمها طواعية وبرضا واختيار.
كما كشفت هذه الأحداث كذب دعاوى الانتخابات "النزيهة" التي تزعمها الانظمة الدكتاتورية، وأن الانتخابات لم تكن يوما، في ظل هذه الانظمة، تعبر عن تطلع الناس الحقيقي، بل هي ليست سوى ثياباً خادعة تسعى الأنظمة لتستر به سوأتها. وما جرى في مصر من انتخابات مؤخراً خير شاهد على تناقض نتائجها مع تطلعات الناس.
• إن البطش الذي يرهب به الحكام الأمة ليس سوى حاجزاً نفسيا سرعان ما ينهار أمام أي تحرك حقيقي للأمة، لذا وجب على الأمة أن تتحلى بصفات الشجاعة والقوة، وأن تدرك بأنها قوية بدينها وإيمانها.
• إن هذه الأحداث يجب أن تُتبع بتغيير حقيقي، ولن يكون التغيير الحقيقي باستمرار الحكم بالرأسمالية أو الديمقراطية وإلا فسيبقى الظلم والجور وإن تغيرت الوجوه، بل يجب أن يكون بالتحول نحو الإسلام وتطبيق شريعته حتى يتحقق التغيير الحقيقي والجذري.
فلقد ثبت بالفكر والواقع أن الإسلام هو المبدأ المنقذ للبشرية جمعاء مما تعانيه من واقع اقتصادي كارثي، وواقع سياسي قاتم، وحياة ضنكا، فالإسلام هو المبدأ الذي يكفل تحقق القيم البشرية في المجتمعات الإنسانية ولا يغلّب القيمة المادية على ما سواها كما تفعل الرأسمالية، والإسلام هو الذي يحقق الطمأنينة في الحياة الاجتماعية التي تفككت وتشرذمت على أيدي الرأسماليين، والإسلام هو الذي يوزع الثروة ولا يسلط وحوش المال على قوت الفقراء كما تفعل الرأسمالية.
لذا وإزاء هذا الواقع لن يكون التغيير الحقيقي سوى بتغيير أنظمة الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع وتطبيق نظام الإسلام.
• إن أي تغيير حقيقي يستلزم أن يكون مدعوماً من قوى الجيش (أهل القوة والمنعة) وهذا يلقي بالمسؤولية على كاهل الجيش لينصر المسلمين وليحقق تطلعاتهم بتطبيق الإسلام حتى يكونوا أنصار اليوم كما كان الأنصار بالأمس.
أما فكرة حيادية الجيش فلا واقع لها، فالجيش إما ان يكون في صف الأمة وحقوقها ويلبي تطلعاتها، وإما ان يكون ركيزة من ركائز انظمة الجور والطغيان، ولولا سكوت الجيش عن نظام مبارك لما صمد ساعة من نهار أمام زحف الملايين، فنظام مبارك لا زال يقتات على دعم الجيش والذي يزعم الحيادية!!
• لقد أثبتت هذه الأحداث مدى ارتباط الحكام والأنظمة بالقوى الغربية الاستعمارية، وأنهم لا يعدون مجرد أجراء وموظفين ومسيرين للمهام نيابة عن المستعمرين، ظهر ذلك جلياً من خلال التدخل الأمريكي المفضوح في مصر وفي تأييدهم لهذا الحاكم او ذاك، بل إن واشنطن قد انشغلت بمصر عما سواها، وعقدت إدارتها لهذا الشأن غرف عمليات دائمة، وعقدت المؤتمرات الصحفية وأرسلت المبعوثين واستقبلت الزوار "رئيس الأركان المصري"، وهي ترسم وتخطط وكأنها تدير مزرعة أو حديقة خلفية للبيت الأبيض!
• كما أثبتت أحداث مصر أن كيان يهود هو كيان هش، وليس بعبعاً عسكرياً كما تروج له الأنظمة، وأنه لولا هذه الأنظمة التي تثبت اوتاده في الأرض لما صمد يوماً في وسط هذا البحر اللجي من المسلمين الذين يتطلعون لتحرير فلسطين، الأمر الذي أدخل الرعب في قلوب يهود وهم يرقبون ما يحدث في مصر ويخشون عاقبته.
• إن ثمن التغيير –بالرغم من علو قيمة كل قطر دم لمسلم- هو أقل بكثير من الرضا بالواقع والعيش في ظل أنظمة الطغيان والجبروت.
إن على الأمة بأسرها أن تستغل هذه الفرصة لتحدث التغيير الحقيقي الجذري، وأن تتجه نحو عودتها أمة الصدارة وخير الامم، فالأمة بطاقاتها ومبدئها وبأبنائها، الذين بانت الأحداث عن مكنونهم ونقاء معدنهم، قادرة لأن تقود شراع البشرية نحو بر الأمان، وعلى الأمة أن تدرك أن التغيير الحقيقي سينعكس على البشرية جمعاء. كما عليها ان تتنبه لكل المخادعين الذي يسعون لوضع العراقيل في دولاب حركتها، ويسعون لتكريس الواقع والاكتفاء بتغيير مظهره الخارجي.
وبعبارة فصيحة على الأمة ان تتجه نحو تطبيق الإسلام بإقامة الخلافة الراشدة من جديد، وان لا ترضى عن ذلك بديلاً، إن هي تطلعت للتغيير الحقيقي والجذري.
كما على الحكام والأنظمة أن يدركوا بأن القطار قد فاتهم، وأنهم يسيرون عكس الجغرافيا وعكس التاريخ بل هم من مخلفاته الملوثة، وأن الأمة قد تخطت حاجز الرعب والخوف، وأن الأمة لا يمكن أن تعود إلى الوراء بعد اليوم، وليعلموا أن مصيرهم مظلم ومهما دبر لهم المستعمرون فلن يحيق مكرهم إلا بهم ولهم في الدنيا خزي ولعذاب الآخرة أشد، فهل يتعظ هؤلاء أم على قلوب أقفالها؟!