الدكتور مصعب أبو عرقوب/عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
"كان يعني ذلك أنهم اخطأوا تماما في قراءة مشروع السلام الأمريكي: إسرائيل فقط كان مسموحا لها بوضع بنود جدول أعمال السلام، بما في ذلك تلك المتعلقة بالتسوية الدائمة".
كان ذلك كلام المورخ اليهودي المشهور اٍيلان بابه في وصفه "إدراج الفلسطينيين النكبة ومسؤولية إسرائيل عنها في رأس جدول الأعمال الفلسطيني" في مفاوضات كامب ديفيد، ويؤكد بابه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" إن ذلك جاء بعد "طلب منظمة التحرير المشورة من جهات من المستغرب اللجوء إليها، مثل معهد آدم سميث" الذي أدرجت بإشرافه تلك القضايا.
قد ترسم حروب الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة في أفغانستان والعراق وباكستان صورة للجندي الأمريكي الذي لا يتورع عن قتل الأبرياء وسحق آمال الأطفال وحرمانهم من ذويهم على حواجز الموت في أحياء بغداد وغيرها من المدن المقهورة التي دخلت موقع ويكيلكس كأسماء لمسرح جريمة نفذتها القوات الأمريكية على أرضنا، وقد تتضافر الأحداث التاريخية في وصم الأمريكي بالتوحش والهمجية فهيروشيما وناكازاكي تبقى شاهدة على مدى القيمة الحقيقية للانسان في حروب الولايات المتحدة!
الا أن جوهر السياسية الامريكية الذي صنع عقلية ذلك الجندي وحرك آلة الموت تلك في أصقاع المعمورة يتوارى خلف أدوات وفّرت لصانعي السياسية الأمريكية الرأسماليين غطاءً أخلاقيا، فيهيم الإعلام العالمي بحب الديمقراطية الأمريكية، وتولع الأقلام المأجورة بالنمط الأمريكي في الحكم، وتمجد سياسات البنك الدولي، وتنزه تقارير لجان حقوق الإنسان، ويحتكم لمجلس الأمن في فض النزاعات ورفع الظلم، وتعطى الأنظمة التابعة في سياستها وإدارتها للدولة الأولى الشرعية، لتصبح هي الأخرى أداة تضلل وتغطي عورة النظام الرأسمالي بغطاء يراه كل من ارتبط بعجلة الدولة الأولى رؤية حاشية الملك للثوب المزيف، ومن يتمرد فيرى الولايات المتحدة الأمريكية عارية من الأخلاق أو الإنسانية يوصف بالإرهابي أو المتطرف!
وقد تضيع تلك الحقائق الثابتة عند التعاطي مع السياسة، فيقع البسطاء في كمين التضليل، وقد يصفق لجمال الثوب أو لإنسانية الحل أو اكتراث الدولة الأولى بمآسي الشعوب ودموع الأطفال كل من صدق الهالة الإعلامية المزيفة والتصريحات المنمقة، فاهتمام الولايات المتحدة بالقضية الفلسطينية المتمثل بمشروع السلام الأمريكي القائم على حل الدولتين، يجب أن يقرأ في سياقه الشرعي والتاريخي أو بمعنى أدق أن يعيد أولئك الذين اخطأوا مراراً في القراءة ....قراءة المشروع الأمريكي قراءة مبدئية تضع الموازين القسط، وتخرج القضية من أوهام التسويات البرغماتية الهشة.
فالولايات المتحدة الأمريكية حاملة لواء الرأسمالية في العالم لا ترى القضية الفلسطينية إلا من خلال المنظور الرأسمالي المادي، فهي لا تقيم وزنا للمقدسات... ولا تعبأ بالقتل المستعر في أهل فلسطين ولا ترى ركام المنازل في القدس أو غزة بعد مرور الجرافات أو الطائرات فوقها، ولا تشتم رائحة الفسفور في مدارس اللاجئين، كل ما يمكن أن تراه هو مصلحتها كدولة استعمارية خرجت للعالم تفتش عن المناجم والمعادن ..عن ثروات وحاصلات الشعوب الفقيرة لتكون غذاءً لبطون مصانعها وشركاتها العملاقة، فاستبدت بمنابع النفط دون أصحابه الشرعيين. وجاست خلال الديار لتأمين أسواق لمنتجاتها، تحت غطاء كثيف من القصف والقتل والمكر والتجسس والانقلابات العسكرية والثورات الملونة، وفي سبيل تحقيق تلك المطامع المادية التي اصطلحت على تسميتها مصالح حيوية تخوض الولايات المتحدة حروبها وترسم سياستها ويتحرك دبلوماسييها، ووجود قضية تأجج المشاعر وتهدد حياة الجنود الامرييكين على حد تعبير باتريوس يضع منظومة المصالح تلك تحت تهديد التغيير وخروج المنطقة من القبضة الأمريكية،
ففلسطين جسدت وما زالت تلك الحالة التي تعاني منها الأمة من شرذمة وهوان وقتل وضياع مقدسات ونهب ثروات. فكان لا بد للإمبراطورية الأمريكية من إطفاء ذلك اللهب المشتعل وتقسيم الأرض بين أهلها ومحتليها في تطبيق عملي لنظرية الحل الوسط، وميل مبدئي طبيعي باتجاه "إسرائيل" كامتداد حضاري وعسكري أمام الخطر المحدق بالاستعمار الجديد والزاحف من الشرق الإسلامي.
وقد يهيأ لبعض متعاطي السياسة وجود منطقة رمادية في أولويات المصالح الأمريكية يمكن من خلالها النفاذ والتأثير قي مجريات الأحداث والمساهمة على الأقل في اقتراح نقاط على جدول الأعمال لمشروع السلام الأمريكي، وتستخدم تلك الفئة حقيقة أن مصالح الولايات المتحدة مع العالم الإسلامي أكبر بكثير من مصالحها مع "إسرائيل"، ومن خلال تلك المقاربة السطحية يرى بعضهم ضرورة إقناع الولايات المتحدة ولفت نظرها ...لتدرك أن مصلحتها مع العالم العربي والإسلامي تتعاظم أمام تضائلها مع "إسرائيل" المشاغبة، في محاولة لحث الإدارة الأمريكية للضغط على "إسرائيل" لتقبل بحل الدولتين (الرؤية الأمريكية للحل).
ومع أن الرؤية الأمريكية للحل تكرس الاحتلال وتضمن بقاء "إسرائيل" وتحافظ على أمنها، إلا ان هذه المقاربة وتلك المعادلة السطحية تشكل حرصاً زائداً على مصالح الدولة الأولى ومنطقاً معوجاً في تحقيق المصالح والغايات من بوابة الحرص على مصلحة الولايات المتحدة وإقناعها بأن مصلحتها معنا... في مص ثرواتنا ونهب بلادنا!!، وذلك السلوك لا يجلب على صاحبه سوى مزيداً من الاستهانة والاستهتار بطاقاته ولا يضعه إلا في خانة التبعية وانعدام الوزن، وتفتقر تلك المقاربة مرة أخرى إلى القراءة المبدئية للصراع، ففلسطين تشكل ساحة المعركة بين الحق والباطل، بين الاستعمار وأهل البلاد، بين الجلاد والضحية، بين الأرقام في ويكيليكس وأصحاب الأرقام في وول ستريت، بين مادية الرأسمالية وعدالة الإسلام.
ولا يمكن بحال من الأحوال للنخب الحاكمة في العالم الإسلامي أن تشكل تهديداً للمصالح الأمريكية، يفضي إلى تغيير في سياستها أو في جدول أعمالها، ذلك أن تلك النخب والأنظمة الحاكمة أقرب في ولائها وتبعيتها للإدارة الأمريكية منها إلى الأمة الإسلامية، ففي ظل بعد الأنظمة عن آمال الأمة وطموحاتها وانفصالها التام عن مجتمعاتها ومشاعر مواطنيها وأفكارهم، ارتبط وجودها بوجود الاستعمار ودعمه لشرعيتها، وبذلك أصبحت أداة طيعة بيد الاستعمار الجديد. بالإضافة إلى أن توحد الأمة الإسلامية في كيان سياسي واحد يشكل تهديداً مباشراً للمصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة والعالم، فوجود الأنظمة الحاكمة وانخراطها في تحقيق الرؤية الأمريكية للحل وتكريسها لواقع التبعية والفرقة...يوازيه حرص الولايات المتحدة على وجود تلك التوليفة الغريبة في العالم العربي والإسلامي... أنظمة عربية و"إسلامية" في حالة عداء وخوف مع شعوبها وفي حالة تقارب أو مفاوضات مع "إسرائيل"، يشكل شبكة الأمان للمصالح الحيوية الأمريكية.
وسيبقى التخبط سيد الموقف والأخطاء تترى، حتى تستعيد الأمة وحدتها، وتجتمع تحت ظل راية واحدة، لتضع تحرير الأرض والمقدسات على قائمة أولوياتها .. لتنطلق إلى العالم بعدها برسالة نور وعدالة تنقذه من وحشية المادية الرأسمالية، والى تلك اللحظة الحاسمة في تاريخ البشرية لا يمكن لأحد أن يدّعي القدرة على إدراج أي قضية على جدول أعمال العملية السلمية...فوضع بنود في جدول أعمال المشروع الأمريكي للسلام ... حصرٌ على "إسرائيل"!!