الدكتور ماهر الجعبري
 
إن الأمة هي صاحبة السلطان السياسي، وهي التي تمنحه لقيادة سياسية تنصبها لتنفذ برامج سياسية تعبر عن رؤاها ومصالحها، ولذلك فلا استقرار لأي نظام لا يعبر عن الأمة التي يقودها مهما عربد ذلك نظام وتجبّر، ومهما تغوّلت أجهزته القمعية على الأمة. ولا يمكن لمغتصبي السلطة، ممن يجدّفون بعكس تيار الأمة، أن تستقر لهم عروش تحت الأقدام أو أن تهتز بأيديهم صولجانات الملك طالما أنهم ينفذون مشاريع غربية تعاكس مصالح الأمة وتصطدم مع مفاهيمها من مثل قبول الاحتلال على أرض فلسطين والاعتراف بدولة لليهود عليها. 
 
ولا شك أن صاحب السلطان المغصوب قادر عندما يمتلك الإرادة للتغيير أن يستعيد سلطانه المغتَصَب، وأن يخلع الغاصب ويلقي به في مقبرة التاريخ، ولا شك أن انكشاف الصورة الحقيقية لمغتصبي السلطة أمام الأمة ترفع درجة حرارتها وتدفعها نحو التغيير والانقضاض على تلك القيادات وخلعها، ولذلك تعمل القيادات المغتصبة للسلطة على تحسين صورتها باستمرار من خلال المواقف الكاذبة والصمود المفضوح، لتكون كما الماء الذي تصبه على الجمرات التي تتوقّد تحت قِدر الشعوب، فتغلي بها الدماء في عروقها.
 
لقد صرّح رئيس وزراء تركيا قبل أيام أنه لن يقف صامتا إذا ما تحركت دولة الاحتلال اليهودي لضرب غزة أو لبنان، وهو تصريح يعبّر في ظاهره عن ممانعة ورفض، ولكنه في حقيقته تصريح مفضوح لمواقف كاذبة ومجرّبة. لقد أطلق أردوغان تصريحات شبيهة عندما نكلّ جيش الاحتلال اليهودي بسفن الإغاثة وقتل الأبرياء، وحُملت النُعوش إلى اسطنبول، وتبين أن "عدم سكوته" يعني "الكلام" الذي يوجهه لحلف النيتو وأنه المحاججة القانونية في المحافل الدولية من أجل كبت جماح الدولة المارقة، ولا توجد في قواميسه أي لفظة تتعلق بتسخير جيش تركيا القوي لرد الكرامة واستعادة الأرض.
إن المخدوعين –أو المخادعين- بنظام تركيا يريدون لمعنى "لن نسكت" أن حكومة أردوغان ستتحرك حسب مصالح الأمة وقيمها وطريقتها في رد العدوان، بينما المعنى الحقيقي المجرّب لا يخرج عن حدود العلاقات الدولية، ولا يهدف أبعد من المكاسب الإعلامية أمام الأمة لإطفاء اشتعالها ضد حكومة ترفع شعار الإسلام فيما تشارك في حرب ضده، من خلال حلف النيتو ومن خلال البرامج السياسية التي تنفذها. 
 
وتتمسك قيادات السلطة بموقف "لا مفاوضات بدون تجميد الاستيطان"، وهو موقف مفضوح آخر، لأنه بكل بساطة لا يحتاج لأي استثناء يأتي بعد "بدون"، والأصل أنه كلمتان فقط: "لا مفاوضات".
ثم إن قيادات السلطة قد جُربّت، وجُربت الأنظمة العربية التي تُسارع لتأمين غطاء سياسي للعودة للمفاوضات كلما أومأت لها وزيرة خارجية أمريكا. وإن هذا الموقف الذي يُعرض على أنه يحمل معاني الصمود والرفض السياسي هو في الحقيقة قبول فاضح بالاحتلال وانكسار مفضوح أمامه، فهو موقف من يتلهف للعودة للمفاوضات –كطريق وحيد في الحياة- ولكنه يريد الحفاظ على شيء من ماء الوجه أمام الناس الذين اتسخت في أعينهم صورة السلطة اللاهثة خلف المفاوضات كما أشارت بعض الشخصيات فيما ذكرت دراسة مجموعة الأزمات الدولية الأخيرة (في أيلول 2010).
 
إن قيادات السلطة لم تجرؤ أن تجعل الموقف في "وقف" الاستيطان، وهي من باب أولى لن تجرؤ على جعله في خلع الاستيطان، وخصوصا بعدما أبدى سياسيّوها الاستعداد لمبدأ مبادلة الأرض. وإن من يقرر أن المفاوضات كانت وظلت عبثية ومن ثم يستعدّ للعودة لها، هو في الحقيقة يسير ضد مصالح الأمة وضد مبدئها، ولذلك فإنه بحاجة لغطاء إعلامي أمام الناس لستر عورته.
وتردد القيادات في سوريا أن المقاومة والممانعة هي النهج الثابت، فيما تتزلف للمفاوضات مع دولة الاحتلال اليهودي، وهي لهثت خلف تحركات العرّاب التركي لتحريك ملف السلام من خلال وساطته، وما تلك التصريحات "الممانعة" إلا كالماء الذي تريد به إطفاء حريق الأمة قبل أن يطالها.
ويتباكي الرئيس المصري على الدولة الفلسطينية التي لن يتبقى لها من الأرض شيئا تقام عليه، إن لم تنخرط السلطة بالمفاوضات دون المطالبة بتجميد الاستيطان، وهو موقف كالحال الذي يصفه الشاعر: "برز الثعلب يوما في شعار الواعظينا"، لأنه موقف نظام ثبت بالقول والعمل أنه أحرص على دولة اليهود من زعمائهم أنفسهم.
فأي مواقف كاذبة وأي صمود مفضوح هذا الذي يتمثل في زعامات هذا حالها ومقالها !
 
والأخطر من هذا التستر لتلك الزعامات خلف الشعارات والمواقف الكاذبة هو ما يقوم به بعض السياسيين والإعلاميين من تطبيل على نفس الألحان التي يعزفها هؤلاء الغاصبين للسلطة، كمساهمة خبيثة لتضليل الأمة، من مثل تمجيد حكام سوريا واعتبارهم أمناء على قضية فلسطين، أو نفخ بالونات حكام تركيا واعتبارهم حملة مشروع نهضوي للأمة كأنهم ورثة العثمانيين. إن هذا التضليل السياسي لا يقل جرما عن جرم الحكام أنفسهم، لأنه يسهم في إطفاء النار التي تشعل الأمة نحو التغيير.
ولا فرق في ممارسة هذا التضليل بين السياسيين الذين يرفعون شعار العلمانية وأولئك الذين يرفعون شعار الإسلام، وإنما الفرق هو فقط في جهة الولاء ونوع الزعامات التي يمجدونها: فبينما تجد المجلس الثوري لحركة فتح يطبّل لرئيس السلطة ويَقبَل أعضاؤه أن يكونوا شهود الزور لاستمرار البرنامج السياسي الباطل، تجد بعض القيادات "الإسلامية" تُطبّل لحكام سوريا (الأمناء على قضية فلسطين!) وحكام تركيا (العثمانيين !)، بينما يكشف أبسط الوعي السياسي أنها زعامات ترتمي في أحضان أمريكا وتنفّذ برامجها، ولا يخطر ببالها يوما أن تدافع بالسلاح عن حرمات الأمة ولا عن مقدساتها.
وفي المقابل تعمل الأحزاب السياسية المخلصة التي تستهدف التغيير واستعادة سلطان الأمة على إشعال الموقف بين الأمة والحكام من أجل دفعها للتغيير. أي أن هنالك "حربا" سياسية بين الحكام الغاصبين للسلطة وبين من يعمل على تغييرهم، وهي مفاصلة لا التقاء فيها عند منتصف الطريق. وهي مفاصلة تكشف من يعمل لاستعادة سلطان الأمة ممن يعمل لديمومة اغتصاب ذلك السلطان.
إن تحرك الأمة للفظ هكذا زعامات رهن بحرارة الأفكار التي تحملها، ورهن بوضوح المواقف السياسية التي تعبر عن مصالحها الحيوية، والتي لا تلتقي أبدا مع مواقف أعدائها، ولذلك فإن الواجب على كل سياسي وإعلامي مخلص أن يعمل على كشف تلك المواقف الكاذبة وعلى فضح من يدّعي النضال والصمود والممانعة فيما هو يلهث خلف زعامات الدولة اليهودية الغاصبة ليسترضيها ولتحفظ له ماء وجهه أمام أمته.
27/11/2010