شعار يرفعه عربي من الأهواز مشرد في استانبول، يتجول على السائحين العرب فيها يتحدث عن اضطهاد العرب في الأهواز في إيران، ويطلب "ولو ليرة تركية" ! هذا المشهد الذي عاينته قبل أيام في إحدى ساحات استانبول استوقفني كثيرا بل واجتذبني للكتابة حول "التسول" الذي أصبح ثقافة !
لقد بدا ذلك العربي "المتسول" واثقا من ثقافته "التسولية" ومقتنعا بما يفعل رغم أنه ممتلئ الجسم نشاطا والعقل ثقافة (حسب شعاره)، وإذ أكتب هذه الخاطرة، لا أتقصده بأي انتقاص شخصي، بل لعلي أسهم في إيصال صوته من خلال صفحات الإعلام العربي، وآمل أن تصله هذه الأسطر.
بداية لا بد من إثارة السؤال الأساسي: لماذا يضطر مسلم للتشرد ومن ثم للتسول وآبار النفط تضخ أموال المسلمين العامة صباح مساء ؟ ويكبر السؤال أمام مشاهد الفيضانات التي تجتاح بلاد السند، وأمام مشاهد المشردين الغارقين في الأوحال ولا إغاثة. ويزداد السؤال إيلاما أمام مشاهد الجائعين في أفريقيا الذين تبرز عظامهم ناتئة من صدورهم رغم ما تخرجه باطن الأرض فيها من خيراتها. بل ويتحول السؤال إلى سخرية سياسية عندما يُمنع أهلُ غزة من الوقود وتتهددهم المآسي بخطر انقطاع الكهرباء في هذا الصيف الملتهب بينما يباع الغاز الطبيعي لدولة المحتل اليهودي بأقل من السعر الذي يباع فيه للمواطنين في مصر !
كثيرة هي الإجابات لمثل هذا السؤال: فإجابة السلاطين، أن تلك الأموال محصورة ضمن حدود سايكس بيكو، ومكتوبة لأمراء سايكس بيكو، ولا علاقة لها بذلك العربي الأهوازي، ولا بغيره من المنكوبين في الأرض، وإجابة علماء السلاطين أن طاعة "ولي الأمر" واجبة حتى وإن جلد ظهرك، وإجابة حكام إيران الذين يرفعون شعار العداء للشيطان الأكبر-أمريكا أنه لا يوجد اضطهاد في الأهواز، وإجابة الفصحاء في مجلس الشعب المصري، أن الأمن القومي المصري خط أحمر لا يمكن السماح بتجاوزه من قبل أهل غزة، حتى ولو تجاوزه المحتل اليهودي وقتل حرّاس أمنه على ذلك "الخط الأحمر" عمدا أو سهوا. وإجابة حكام تركيا الذين يرفعون شعار الإسلام أنهم سيعيدون كرة "مرمرة" في مزيد من "المرمرة" لأهل غزة "الممرمرين".
ولو تحول السؤال نحو المجتمع الدولي، لربما كانت إجابة الإتحاد الأوروبي -في لحظة مكاشفة- أن إفريقيا هي ساحة صراع مع أمريكا على الخيرات التي هي حق لمن سلب واغتصب، ولكانت إجابة أمريكا أنها سيدة العالم تريد أن تفعل ما تشاء حتى ولو اهتز عرش تفردها ! ولكانت إجابة بان كي مون أن معدل الفقر يزداد في العالم بعد الأزمة المالية وأن لدى الأمم المتحدة برامج تنموية موجهة للشراكة مع منظمات المجتمع المدني في البلاد المنكوبة.
كثيرة هي إجابات الرسميين من أصحاب الألقاب والمعالي، الذين تعلموا فن خداع الشعوب وخلط الألوان وفرض موازين القوى والسلطان. أما إجابة المتسولين من أمثال ذلك الأهوازي فلعلها تتلخص في أن "التسول مهنة"، بل وربما يزيد المثقفون من الشعر بيتا فيقولون: هي مهنة يمارسها الساسة والعامة.
نعم هي مهنة تلاحظها حيثما قلّبت الأمر، وأرجعت البصر صعودا ونزولا في سلّم الرتب والمراتب الإدارية والسياسية، تجد حكومات تتسول أمام الدول المانحة مقابل المواقف السياسية، وتجد منظمات تتسول أمام الجهات المانحة مقابل تنفيذ أجندات تلك الجهات، بل وتجد أن التسوّل أصبح "مهنة" تتطلب "ثقافة" خاصة في كتابة مقترحات ومشروعات التسول (أو المسمى تلطيفا "التمويل")، وهي تعرض "المبررات" لذلك التسول (المنقول تعريبا عن –fund raising- بمصطلح تجنيد الأموال) تماما كما يعرض الأهوازي مبرره من الاضطهاد في الأهواز.
إذن، لماذا يخجل ذلك الأهوازي من تسوّله، فلعلك لو ناقشته بالأمر –ولم أفعل- لقال: هنالك شعارات للكثيرين من المتسولين غيري من أمثال: أكاديمي يتسول ... و"ناشط مجتمعي" يتسول ... وسياسي يتسول ... وسلطوّي أو وزير يتسول ... إنه زمن التسول .. وأنا أتحدث على المكشوف وقميصي مسدل فوق بنطالي، أما أولئك المتسوّلون "المهنيّون" فيضعون ربطات عنق وهم يستجدون !
بل ولو حاججني لغلبني بالقول إنك من فلسطين التي صارت رائدة التسول: سلطة تتسول الأموال السياسية لتنفيذ مشروع حل الدولتين ... وصراع على أموال التسول لإعمار غزة ... ومنظمات غير حكومية تتسول أموال الجهات المانحة لتنفيذ برامج التغريب الثقافي والتخريب السياسي بل والتطبيع مع المحتل اليهودي ... بل وربما فضح أمري وقال إنك أستاذ في جامعة، وكغيرها من جامعات فلسطين، لا تقوم لها قائمة إلا بثقافة التسول!