إبراهيم الشريف/عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
مرحلة هامة تمر بها الأمة الإسلامية تتميز بزيادة فجوة التطلعات والهموم والأفكار بين حكام البلاد الإسلامية وبين أهلها، وقد وصل مدى يأس الأمة من حكامها إلى أن يصرح قادة بتصريحات مثل أمير قطر بقوله: لم يعد من الممكن أن نخدع أنفسنا وشعوبنا ومثل معمر القذافي بقوله: المواطن العربي تخطانا والنظام الرسمي أصبح يواجه تحديات شعبية متزايدة. والمتتبع العادي ليس بحاجة لمثل هذه التصريحات ليجزم بعجز الأنظمة الرسمية عن تلبية أبسط الطموحات لأن واقع حالها يغني عن التصريحات، ولكن هذا العجز وتراكمه في قضايا عديدة وعلى رأسها قضية فلسطين يلقي بتبعات في غاية الأهمية في المنطقة.
فالحكام المحيطون بفلسطين يقرون بشرعية "إسرائيل"، ويعملون على حراسة حدود الاحتلال، ويمدونه بما يحتاج من مياه وطاقة، وقضية الغاز المصري الذي تصدره مصر بأبخس الأثمان لقتلة الأطفال والنساء أشهر من أن تذكر، وجبهة الجولان باردة برودة الجليد، ناهيكم عن الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية فهناك مثلاً (1050) شركة "إسرائيلية" تصدر منتجاتها إلى الأردن وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الأردن و"إسرائيل" (342) مليون دولار في 2008م حتى أن الأردن يعفي 2500 سلعة "إسرائيلية" من الرسوم والجمارك. وحسب تقرير أعدته جمعية «إعمار» للتنمية والتطوير الاقتصادي فإن حجم التبادل التجاري بين "إسرائيل" والبلدان الإسلامية تصل قيمته حسب أرقام دوائر الإحصاء "الإسرائيلية" إلى عدة مليارات من الدولارات.
وغزة ذُبحت أمام أعين الحكام جميعًا وبإعلان من عاصمة عربية، والشعوب أعلنت عن غضبها في الشوارع والجيوش كانت تغلي في ثكناتها حتى طالتها الاعتقالات، والحكام مكانك سر وإذا تقدموا فإنهم يتقدمون في خدمة المشاريع الاستعمارية وتسليم مقدرات البلاد للشركات الغربية.
ولا شغل للجامعة العربية (وهي في حقيقتها مشروع حفاظ على التجزئة) ووزراء خارجية دولها إلا الاجتماع بطلب من أميركا لإعطاء غطاء عربي لكل مهزلة تأمر بها.
أما السودان فأن أميركا تقودها نحو التمزيق فهي تدعو إلى الانتخابات وتشرف عليها وتدعمها لفصل الجنوب بعدما دعمت الانفصاليين، والقادة فيها يسيرون طمعًا وراء منصب هنا وهناك، لدرجة أن صرّح جيمي كارتر أن: أمريكا تدير الانتخابات في السودان مثلما أدارتها في العراق سابقاً، وهذه الانتخابات يُعمل لها لتكون أداة لفصل جنوب السودان عن طريق توفير "الشرعية" اللازمة لذلك وإجراء استفتاء، وقد قال جاك رود عضو مركز كارتر لمراقبة الانتخابات: إن أميركا أحرص ما تكون على فوز البشير لأنها ترى في فوزه تطبيق بنود الاتفاقية خاصة ما تبقى منها وهو عملية الاستفتاء. فبدل أن تعمل الدولة على وحدة البلاد تراها تسعى في تقسيمها وبدل أن تطرد نفوذ الاستعمار نجدها أداة طيعة لتحقيق سياساته، ويضاف إلى ذلك مشكلة دارفور التي نتجت عن تدخل القوى الغربية فيها مستغلة سوء إدارة ورعاية الدولة للأمور فيها.
وباكستان يقود حكامها حربًا بالنيابة عن أميركا ضد المسلمين بحجة مكافحة الإرهاب، وقد فتحت المجال واسعًا أمام شركات القتل الأميركية مثل بلاك ووتر لتنفذ العمليات التفجيرية كي تكون مبررًا للحكومة للاستمرار في حربها ضد المسلمين ومدخلاً لتغلغل النفوذ الأميركي في المؤسسة العسكرية والأمنية الباكستانية، وقد تم إلقاء القبض على أميركيين مدججين بالسلاح وتم إخلاء سبيلهم أكثر من مرة واستغلت الاستخبارات الباكستانية بعض عناصر طالبان المدسوسين لتستخدمهم في عمليات مشابهة، ويكفينا قول وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس في 8/12/2009 لمحطة صوت أمريكا: "كلما تلقوا مزيداً من العمليات التفجيرية من مثل عملية التفجير التي حصلت في المسجد براولبندي، كلما طلبوا منا مزيداً من المساعدة". وتصريح أوباما في كلمته حول الوضع في أفغانستان والعراق في 2/12/2009م: (وفيما تعرّض الأبرياء للقتل من كراتشي إلى إسلام أباد، أصبح واضحا أن الشعب الباكستاني هو الأكثر تعرضا للخطر بسبب التطرف. لقد تغير الرأي العام. والجيش الباكستاني شن هجوما ضد المتطرفين في سوات وجنوب وزيرستان(، وهكذا تؤدي حكومة باكستان الحالية والسابقة دور القاتل المأجور لشعبه.
وبنغلادش يتم العبث بأمنها وبجيشها عن طريق أميركا ويراد استعمالها لمواجهة الصين إلى جانب مواجهة التحرك الإسلامي فيها، فقد تكررت التدريبات الأميركية المشتركة التي تعلن عنها السفارة الأميركية بحجة مكافحة الإرهاب المزعوم مثل نداء الميناء والقرش النمر(1) حيث أن أميركا تطمع في إنشاء قاعدة بحرية لها في خليج البنغال، وأما من جهة الهند فقد تعاونت حكومة الشيخة حسينة مع الهند ومنحتها ميناء شتونغ ومانغلا وسمحت لها بعبور أراضيها عبر ميناء اشغونج إلى جانب عقد اتفاقيات أمنية للتنسيق مع المخابرات الهندية لمكافحة الإرهاب (الإسلام)، وقد أشرفت حكومة الشيخة حسينة على مؤامرة قتل قيادة حرس الحدود لإضعاف حرس الحدود وعزله عن قيادة الجيش ليصب في مصلحة الهند.
هذه أمثلة بارزة على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر تبين حقيقة سياسة الحكام في البلاد الإسلامية التي لا تلبي أدنى طموحات المسلمين في التخلص من سيطرة الدول الكبرى عليها وعلى مقدراتها، وبل وتعمل بكل صفاقة على تغلغل هذا النفوذ يومًا بعد يوم إلى درجة استعمال أميركا للجيش الباكستاني لإنقاذها من ورطتها في أفغانستان عن طريق دك مناطق المسلمين التي تشكل عمقًا لطالبان والتي تقاتل قوات الناتو وتذيقها الويلات.
وقد تغيب عن بعض المتابعين حقيقة بعض الحكام الذين يمثلون أدوار البطولة الزائفة مثل حكام تركيا الذين صفق لهم كثيرون لمجرد مواقف خطابية دعائية بينما لا يزالون يعترفون بحق "إسرائيل" في حوالي 80% من فلسطين جهارًا نهارًا، وبينما كان أردوغان يلقي خطبته العصماء في قمة سرت في ليبيا كان رئيس الأركان "الإسرائيلي" "اشكنازي" قبل ذلك بيوم يحضر مؤتمراً عسكرياً أمنياً بدعوة من أردوغان في تركيا!
والحقيقة أن حكام تركيا يدورون في فلك الرؤية الأميركية للمنطقة ولفلسطين المتمثلة في حل الدولتين ولكنهم يختلفون في أسلوب إخراج أعمالهم لدواعي انتخابية ولكسب ود المسلمين في معركتهم ضد مؤسسة الجيش صاحبة التبعية الانجليزية القديمة، هذا عدا عن التعاون الاستراتيجي المعلن مع أميركا في مجال الأمن ومحاربة الإسلام.
ولا أعرف كيف يستقيم ادعاء العداء مع "إسرائيل" مع تبادل السفارات والوساطة بينها وبين سوريا في المفاوضات! ولكننا عندما نسمع تصريحًا لأردوغان يقول فيه أن "المستوطنات "الإسرائيلية" أكبر عقبة في وجه السلام"، ومثل تصريحه بخصوص حرب غزة: ''نحن لا نتبع هذه المقاربة لأننا مسلمون، هذه مقاربة إنسانية'' وغيرها الكثير نفهم منها أن أردوغان ليس ضد احتلال إسرائيل لـ 80% من أرض الإسراء والمعراج وأن ما حدث في غزة موضوع إنساني وليس موضوعًا إسلاميًا، وعندما نسمع عن قوات تركية قبالة إيلات تشارك في مناورات، وعن زيارة وكيل وزارة الخارجية "لإسرائيل" مؤخرًا، وعن زيارة وزير الحرب "الإسرائيلي" لأنقرة مطلع هذا العام تتضح لنا حقيقة المواقف.
إن عموم المسلمين يطالبون بالعيش في ظل حكم الإسلام، حيث يطبقون نظام ربهم بدل نظم البشر وينعمون بثرواتهم بدل أن ينهبها المستعمرون وشركاتهم، ويدافع جيشهم عن أمنهم ويطرد المحتلين ويستنقذ المقدسات بدل أن تستخدمه هذه الأنظمة لقتال المسلمين وخدمة مصالح الاستعمار أو الاستعراضات، واستطلاعات الرأي وانقياد المسلمين للحركات الإسلامية عمومًا دون غيرها من الحركات العلمانية دليل واضح على ذلك، بينما الحكام لا يزالون على خطاهم القديمة محاولين تكريس واقع قديم لم يكن للإسلام وللحكم بالإسلام رأي عام كاليوم، وإن تحرك أحدهم فإنه يتحرك لركوب هذه الموجة كالنظام التركي لتحقيق سياسيات لا علاقة لها بالإسلام.
ومثل هذه الوقائع وغيرها تشير وبقوة إلى حالة انفصام تزداد يومًا بعد يوم بين الأمة وحكامها، وتشير اندفاعات بعض البسطاء والمخدوعين للتصفيق لموقف يظنوه بطوليًا كمواقف أردوغان المسرحية إلى تعطش الأمة لقيادة مخلصة ترد النار بالنار على أعدائها وتعيد لها شيئًا من العزة والكرامة المفقودة التي تعرفها عن تاريخها، رغم سياسة تغيير المناهج المتكررة التي تحاول تغييب الأمة عن وعيها وصياغة وعي مزيف لأبنائها.
فلا يوجد أي سلطان من الحكام اليوم على الأمة غير سلطان السيف والمكر والمال لأن العلاقة الطبيعية بين الحاكم والمحكوم مفقودة لوجود الانفصام الفكري والشعوري فالحكام ما عادوا يشعرون بشعور أمتهم منذ زمن وقد ضربوا بسوء رعايتهم للأمة أفظع الأمثلة، مما أوجد حالة من الفراغ وإحساس عميق بضرورة وجود قيادة مخلصة للأمة تغضب لغضبها وتتحرك لرعايتها وتلبي طموحاتها وتكون درعًا وحماية لمقدساتها ومقدراتها نارًا على أعدائها نورًا لأبنائها..
وحتى الآن لا يوجد مشروع يطرحه الحكام أو يطرحه أسيادهم لسد هذا الفراغ بين الحكام والمحكومين، غير إشغال الأمة بفقر فوق فقر رغم الثروات التي تحتضنها بلادنا الإسلامية أو بحرب مصطنعة لا ناقة لنا فيها ولا جمل، بينما تنشغل رأس الشر أميركا في ورطاتها العسكرية والاقتصادية وتُشغل المنطقة مجرد إشغال بجولات ميتشل ليتلهى بها اللاهثون وراء سراب الوعود الأميركية.
إن المشروع الذي يمكن أن يسد هذا الفراغ ويعيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم إلى طبيعتها هو مشروع نابع من إرادة الأمة وثقافتها الأصيلة، يستند إلى ما تحمله من معتقدات وأفكار، ويعبر عن أحاسيسها، ويلبي متطلباتها المادية والروحية والمعنوية، لا تفرضه الدول الاستعمارية وتزينه كمخرج فيتلقفه المنتفعون الذين يقتاتون على دمار الأمة، ولا يكون مجرد شعارات جوفاء لا يوجد له برنامج عملي لتطبيقه وإيجاده في الواقع، ومثل هذا المشروع يحتاج لمخاض شديد تخرج فيه الأمة وأحزابها السياسية من دوامة المشاريع الغربية ومن فتنة الأفكار الهدّامة كالوطنيات والقوميات، وقد نجحت الأمة في معركتها الفكرية ضد الفكر الاشتراكي والرأسمالي نجاحًا كبيرًا ولم يعد للفكر الرأسمالي ذاك البريق الخادع بعدما انكشفت حقيقة حقوق الإنسان والديمقراطية في العراق وأفغانستان وصار المطروح موضع النقاش والبحث هو الفكر الإسلامي وكيفية أخذه وتطبيقه، ولم يعد الغرب يستطيع ترويج أية فكرة من أفكاره دون أن يوظف علماء سوء يفتون بأنها من الإسلام.
إنها مرحلة مفصلية في تاريخ الأمة سوف تفصل في اعتقادي بين مرحلتين مختلفتين تمامًا، مرحلة الحكم الجبري الذي تعيشه الأمة وتصطلي بناره ومرحلة الدولة الإسلامية العملاقة التي يعيش فيها المسلمون حيث ينسجم الواقع المعاش مع المعتقدات والأفكار، ويعودوا قادرين على الإنتاج والإبداع ويصدروا إسلامهم للعالم في أحسن صورة بدل أن يكونوا محل رسائل الأمم الأخرى، فتستحق الأمة بذلك أن تكون خير أمة أخرجت للناس.