الدولة في النظم الرأسمالية الغربية تتحكم في الأموال، وفي طريقة صرفها، وذلك حسب الخطة الاقتصادية التي يقررها السياسيون في الدولة، وقد رأينا كيف ثار الشارع الأمريكي على تصرفات الدولة في إعطائها من أموال الضرائب للشركات، وشرائها للأصول المتعثرة أو المعدومة من المال العام؛ أي من أموال الضرائب، وهذا التحكّم ناتج عن عدم وجود أحكام ثابتة عادلة، تتحدث عن تقسيم الأموال وتصنيفها تصنيفاً صحيحاً في ميزانية الدولة !! ..
والحقيقة أن هذه الطريقة في التعامل مع المال لا ينهجها منهج الإسلام العادل المستقيم، لأنها تحقق وتجلب الظلم في المجتمع، وذلك عندما تجني الدولة المال من عامة الناس؛ محدودي الدخل، وتتصرف به لصالح جيوب الأغنياء؛ من الذين تعثرت عندهم بعض الأعمال أو الشركات ..
ولدرء هذه المفسدة العريضة فإن النظام الاقتصادي في الإسلام، وضع أحكاماً منضبطة لكل درهم يوجد في خزينة الدولة الإسلامية؛ من حيث الجباية ومن حيث التوزيع، ولا تملك حتى الدولة أن تتصرف فيه، إلا بإذن شرعي يستند إلى حكم شرعي يتعلق بكيفية التعامل مع هذا المال، ووضع الإسلام كذلك أحكاما رعوية تساعد الناس في سبل العيش والرفاه !!
ويمكن إجمال هذه الأحكام التي تحقق معنى الرعاية الحقيقية، وضبط الأموال وحفظها إلى 1- الأحكام المتعلقة بجباية الأموال وتقسيمها.2- الأحكام الرعوية من قبل الدولة
فمن ينظر إلى تقسيمات بيت المال، يرى أن الإسلام قد صنف الأموال تصنيفاً كاملاً؛ بحيث أنه لم يترك أي صنف إلا وجعل له طريقة منضبطة، ومن هذه التصنيفات على سبيل المثال :-
1- صنف الأموال من حيث ملكيتها إلى أموال عامة وأموال دولة، وإلى أموال أفراد، وهذا التصنيف قد ضبط موضوع الأملاك، وعدم اختلاطها مع بعضها البعض، وحافظ في نفس الوقت على أموال عامة الناس، وذلك بعدم السماح للدولة أو للأفراد من السيطرة عليها، وهذه الملكيات؛ هي الملكيات العامة، وملكيات الدولة، وملكيات الأفراد.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، البترول هو من الثروات العامة التي لا يجوز لأحد ولا حتى للدولة أن تستفرد بمنفعته كأملاك دولة، بل يجب أن تعود منفعة هذا البترول إلى جميع أفراد الرعية؛ فرداً فردا، أما دور الدولة في هذا المضمار، فهو الرعاية والتنظيم وحسن الاستغلال، والسبب هو أن هذا البترول يصعب على فرد أو أكثر استغلاله، وفي نفس الوقت يصعب إتاحة الفرصة للناس للانتفاع به تحت الأرض، فلا بد وأن تقوم الدولة برعايته، على أحسن وجه؛ في استغلاله وتكريره وتوزيعه على الناس، وبيع الفائض ورصد ريعه على الناس ..
وإذا نظرنا إلى هذا الأمر من زاوية اقتصادية، فلا يخفى ما يوفّره هذا المصدر من أموال طائلة يعود ريعها لكل فرد، وتوفّر الطاقة المجانية؛ من كهرباء ومحروقات لجميع الناس تقريباً، وهذا بالتالي يجلب الخير الكثير على المجتمع، ويدرأ الأزمات والفقر عن أبناء المسلمين!!
2- صنف الإسلام الأموال؛ من حيث مصادر الجباية لبيت المال، حيث ربط كل ذلك بأحكام شرعية منضبطة، مثل الغنائم والخمس، والخراج، الجزية،الزكاة .. وغير ذلك
فقد فصّل الإسلام في هذه الأموال تفصيلاً دقيقاً؛ من حيث كيفية جبايتها والمقدار الذي تجبى منه، ومقدار ما يجبى من دراهم ودنانير أو زروع أو غير ذلك، وفصّل كذلك في كيفية ترتيب هذه الأموال في بيت المال بحيث لا يختلط قسم مع الآخر، لأن مصارفها ليست واحدة .
3- صنف الإسلام في كيفية إنفاق الأموال بعد جبايتها، وكيف يُنفق كل قسم من هذه الأموال؛ حيث جعل على سبيل المثال نفقات الملكيات العامة تختلف عن نفقات الزكاة أو العشور، وجعل هذه أيضاً تختلف عن نفقات أملاك الدولة إلى غير ذلك..
والناظر في طريقة الإنفاق من هذه الأموال يرى أنها تعود بالنفع على كل مسلم؛ بتساوي الفرص للجميع، دون وجود تمييز أو احتكار، كما هو في النظم الرأسمالية الظالمة؛ التي تجعل اليد الطولى للرأسماليين الكبار، وتحرم عامة الناس من نفع الأموال ..
4- : بين الإسلام تصنيف الأموال في خزينة واردات الدولة( بيت المال)، من حيث (الواردات والنفقات )؛ فبيت المال في الدولة الإسلامية يشكل أساس ميزانية الدولة، وقد فصّل فيه الإسلام تفصيلاً دقيقاً؛ من حيث الواردات التي ترد هذا البيت، ومن حيث النفقات التي تصدر منه في رعاية شؤون الدولة جميعها، حيث جعل لكل صنف من أصناف الواردات مكاناً خاصاً لوضعه فيه، بحيث لا يختلط مع غيره من غير جنسه، وجعل كذلك طرقاً شرعية منضبطة في كيفية نفقة كل صنف من هذه الأصناف..فمثلاً جعل للزكاة مكاناً خاصاً توضع فيه، ولها سجلات وإحصائيات وموظفين؛ من العاملين على هذا الأمر، لضمان سلامة التحصيل وحسن التوزيع، وفصّل في كل صنف من أصناف واردات بيت المال من هذه الزكاة بشكل دقيق، وفصل في كل صنف من الأصناف الثمانية التي ينفق عليها من مال الزكاة؛ وجعل نفقات الدولة ومؤسساتها في أصناف معينة من بيت المال وليس من جميع الأصناف!!..
2- الأحكام التي تحقق معنى الرعاية الصحيحة، ومن هذه الأحكام:-
1- كفالة الحاجات الأساسية الثلاث في المأكل والملبس والمسكن لكل فرد من أفراد الرعية، وتمكينه بأكبر قدر مستطاع من الحاجات الكمالية .
فالناظر في النظام الرأسمالي يرى انه لم يعتنِ بالحاجات الأساسية، ولا الكمالية عند الناس بصورة فردية، مع أنه مبدأ ينادي بإنصاف الفرد دائماً، حتى أطلق عليه أتباعه المبدأ الفردي. حيث جعل هذا المبدأ الأساس في رعاية شؤون الناس الأساسية هو جهاز الثمن فقال: (الثمن هو المنظم للتوزيع ولا يوجد منظم آخر يقوم بهذا الدور)، فمن يملك الثمن؛( المال) يستحق العيش، ومن لا يملك ذلك لا يستحق الحياة، مما تسبب في أزمات خطيرة في المجتمع تتعلق بشؤون الفرد، وحاجاته الأساسية، وزاد عدد الفقراء بشكل متزايد!!
أما في الإسلام فإن الأمر مختلف تماماً عن النظام الرأسمالي، حيث يرعى الإسلام حاجات الفرد رعاية كاملة، خاصّةً الحاجات الأساسية منها، وهذا الأمر له دور كبير في درء الأزمات المالية من المجتمع، وذلك عندما تقوم الدولة برعاية حاجات الفرد التي عجز عن الوفاء بها؛ وقد وردت نصوص شرعية كثيرة تبين هذه الحقيقة، ومن ذلك قوله عليه السلام : "من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا-( أي ضعيفا، لا يستطيع القيام بشؤون نفسه)- فإلينا"؛ أي علينا واجب القيام بذلك!!
2- رعاية الأموال العامة في المجتمع لصالح كل فرد فيه :-
وهذا على العكس تماماً من النظام الرأسمالي، حيث يسعى هذا النظام لتمليك هذه الأموال، والثروات لأصحاب الشركات الكبرى والأغنياء، وهذا الأمر بارز بشكل واضح في آبار البترول وعيون المعادن، والبحار وغير ذلك .. وهذا الأمر عند الرأسماليين يزيد غنى الأغنياء، وفي نفس الوقت يزيد من حرمان الفقراء، مما يسبب الأزمات في المجتمع ويزيد اتساعها .
أما الإسلام فقد نظم حيازة الثروات في المجتمع، ونظم طريقة الانتفاع بها بشكل مثالي سامي، يحقق العدالة في توزيع هذه الثروات ..
3- تمكين الناس من الانتفاع من الثروات الطبيعية التي خلقها الله على وجه الأرض؛ مثل الزراعة، وإقامة المشاريع وفتح باب التجارة وغير ذلك.. .
وهذا الأمر ليس متوفراً في النظام الرأسمالي لجميع أصناف الناس، بل هو فقط للطبقات الرأسمالية التي تستطيع دفع المال مقابل ذلك، أو دفع الضرائب الباهظة، وبالتالي فإن هذا الأمر يقود إلى وجود قلة ممن يستغل هذه الثروات، وسوء استغلالهم لهذه الثروات بشكل واسع، وفي نفس الوقت يقود إلى قلة انتفاع الأشخاص منها، وهذا كله يقود إلى حصول نقص في الأموال الموزعة على قطاع واسع، ويقود على المدى البعيد إلى حصول الأزمات المالية والاقتصادية بشكل عام .
أما الإسلام فإنه يتبع أمرين تمكنان الناس من الانتفاع بالثروات، وعلى أكبر قدر مستطاع ؛ الأول : فتح الأبواب أما الناس وتمكينهم من ذلك، والثاني : إعطاء الناس من النقود، ليقوموا هم أنفسهم بالعمل وتطوير وتوسيع الانتفاع
4- قيام الدولة بسياسة توزيع المال للقضاء على التفاوت الطبقي في المجتمع :-
وهذا أمر غير موجود في النظام الرأسمالي، بل على العكس النظام الرأسمالي هو الذي يغذّي الطبقية في المجتمع، ويزيد الكراهية بين الناس، وذلك من خلال السياسات المالية المقيتة، والأحكام الاقتصادية الفاسدة المنظمة لشؤون المال والأعمال. أما الإسلام فإنه من حكيم عليم، يعلم ما يجلبه التفاوت الطبقي من دمار وخراب على المجتمع؛ قال تعالى في بيان إزالة هذه الظاهرة الخطيرة:" مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 7 لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" 8 الحشر، وقد أعطى الرسول عليه السلام قسما من المسلمين الفقراء، ليرفع مستواهم الاقتصادي، من فيء بني النضير.
5- رعاية الناس في حال حصول الجوائح والشدائد:
المقصود بالجوائح والشدائد هي: (الأمور التي تنتاب المسلمين أفراداً وجماعات، وتحدث فيهم الشدّة وشظف العيش والاضطراب والفقر، أو قد تتسبب بالتشريد وهدم البيوت والموت الجماعي، أو غير ذلك من ألوان الشدائد والنكبات) .. وهذه الأمور غالباً ما تنتج عن الظواهر الطبيعية؛ مثل الأعاصير والزلازل والبراكين أو الحرائق أو الجدب والقحط .. إلى غير ذلك من مظاهر طبيعية، وقد تحدث هذه الجوائح والشدائد بسبب اعتداءات الأعداء في الحرب أو الحصار أو غير ذلك ...
والحقيقة أن نظرة المبدأ للإنسان وكرامته وقدره هي التي تحدث ردّة الفعل عند أصحاب هذا المبدأ في طريقة العلاج وسرعته، فإذا كان المبدأ يقدر الإنسان ويوليه الأهمية القصوى في النظرة فإن حركة الدولة والمواطنين في هذه الدولة تكون سريعة جداً وبأقصى الطاقات والقدرات لإنقاذ الناس المتضررين من هذه الكوارث، وإن كانت النظرة تنصب على رأس المال وعلى اعتبارات أخرى غير كرامة الإنسان وحياته، فإن الحركة تكون بطيئة وغير كافية، ولا تتناسب مع حجم الكارثة !! ..
فالإسلام يعرف للإنسان قدره وكرامته ويسخر كل الأمور المادية لراحته، وهذا بعكس الرأسمالية التي تولي الاهتمام الأول للمال والثروات وليس للإنسان قال تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } ( الإسراء / 70 ) وقال عليه السلام مخاطبا الكعبة الشريفة:( ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً !!..) رواه ابن ماجه. وبهذه الأحكام العادلة المستقيمة وغيرها نرى أن الإسلام بحق دين رعاية تحقق للإنسان الراحة والطمأنينة ويقضي على الفقر ويحقق الرفاه الاقتصادي، وهذا بعكس الرأسمالية التي تجلب الفقر والشقاء وتنهب ثروات الناس لصالح فئة قليلة في المجتمع هم الرأسماليون!!...