هذا المقال لا يناقش حكمًا شرعيًا، ولا يبحث في أدلة تحريم الاحتفال بالكريسماس، بل يقف عند المشهد نفسه، عند الصورة العامة، وعند التوقيت، وعند الرسالة التي تُبثّ إلى أمة مثخنة بالجراح. إن الحديث هنا حديث وعي، لا حديث فتوى.
الاحتفال بالكريسماس، بصورته الصاخبة المستوردة، لا ينسجم مع حال أمة تعيش واحدة من أكثر مراحلها قسوة في التاريخ الحديث. أمة تُقصف في غزة، وتُحاصر حتى في رغيف الخبز، ويُكاد لها في الشام، وتُدمَّر في لبنان، وتُدفن تحت الركام أحلام أطفالها قبل أجسادهم. في مثل هذا الواقع، يصبح الاحتفال الصاخب تقليدًا أعمى لثقافة غربية بعيدة عن ديننا، ويغدو التزيين والإنارة والموسيقى العالية مظاهر إنكار للواقع لا تعبيرًا عن حياة.
إن ما يجري ليس مجرد فرح عابر أو بهجة موسمية، بل هو حالة من التناقض الأخلاقي الصارخ، حين تعجز الأمة عن الحزن اللائق بمصابها، فإنها تفقد جزءًا من مناعتها الداخلية. وحين تصبح مشاهد القتل اليومية عادية، وتتحول المذابح إلى خلفية صامتة للاحتفالات، فذلك دليل على نجاح مشروع خطير اسمه تطبيع الألم، حيث يُعاد تشكيل الوعي ليقبل المأساة بوصفها قدرًا لا يستحق التوقف عنده أو العمل لتغييره.
الاحتفالات في هذا السياق ليست بريئة، وليست معزولة عن السياسة والثقافة ، إنها جزء من عملية تطويع ناعمة للشعوب، تُسلب فيها الحساسية تجاه الدم، ويُعاد فيها تعريف الفرح ليصبح منفصلًا عن الواقع ومنفصلًا عن الانتماء، ومنفصلًا عن الدين. هكذا تُصقل المجتمعات لتقبل التعايش مع الظلم، لا لمجابهته!
إن الترويج المكثف لهذه الاحتفالات في ظل المجازر ليس تعبيرًا عن تسامح، بل تعبير عن اختلال في الأولويات. يُبنى فوق جثث المظلومين، ويُعلن في وقت تُقصف فيه مدن بأكملها، ويُستعرض في ساحات تُجاور مخيمات الفقر والحصار. ما يُفرض اليوم هو نموذج ثقافي منزوع الذاكرة، منزوع الغضب، منزوع الموقف، مفروض على أمة مستعمرة ثقافيا وعسكرياً
وما جرى في روابي من احتفال صاخب لا يمكن فصله عن هذا السياق، لم يكن المشهد مجرد احتفال، بل رسالة سياسية وثقافية تقول إن الألم الذي يصيبنا في غزة والقدس وجنين وطوباس وطولكرم يمكن تجاوزه بالإنارة والزينة المنتزعة من غير ثقافتنا وديننا وقيمنا، وإن الاحتلال والحصار يمكن تغطيتهما بموسيقى عيد ليس عيدنا. هذا النوع من المشاهد يدوس بقدم غريبة على قضية لا تزال تنزف، وجراحها تفتح مع كل شهيد يوارى التراب أو لا يوارى وكل صرخة طفل جائع وكل يد ترتجف من البرد.
إن الأمة لا تُدان لأنها تفرح، بل تُدان حين تُجبر على الفرح في غير موضعه، وحين يُعاد تشكيل وعيها لتضحك بينما يُذبح أبناؤها. الفرح الحقّ يأتي بعد النصر والاحتفال الحقيقي لا يولد إلا من رحم الكرامة، أما القفز فوق الجراح فليس حياة، بل هروب منظّم من الحقيقة.
هذا المقال ليس دعوة لغير ما أمرنا به الله من البر والقسط لأهل الذمة، بل تأكيد أن البر لا يعني الاحتفال بما يخالف عقيدتنا، ولا التنازل عن قيمنا وأحكام الإسلام، وهو دعوة لاستعادة البوصلة. فالأمم الحية لا تنفصل عن آلامها، ولا تُستدرج إلى مظاهر فارغة تُخالف الدين بينما قضاياها المركزية تُباد. وما لا يليق بأمة في زمن النهوض، لا يليق بها من باب أولى في زمن الجراح.
عبد الله النبالي
29/12/2025






