"أنا أرى، كما تعلمون، أن سلوك الرد في قطاع غزة جاوز الحد"، التصريح الذي اعتبره الكثير من الكتاب والساسة نقطة تحول في موقف الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارته من الحرب في قطاع غزة، بل إن البعض اعتبره مقدمة لتوقف حرب الإبادة الحاصلة، فما حقيقة هذا الموقف؟ وهل الخلاف هو على حجم الدماء والدمار؟ وهل استمرار الدعم لكيان يهود متوقف على تجاوب نتنياهو مع الرغبة الأمريكية؟ وما حقيقة الموقف الأمريكي من الإبادة الحاصلة؟ تساؤلات تقفز إلى الأذهان في ظل التوتر الظاهر بين الأب المُدَلِّل والابن العاق، وسوف نحاول الإجابة عنها في هذه المقالة.
لا يخفى على كل متابع وسياسي أن هنالك خلافات أو ربما نسميها حالة من عدم التجاوب من قبل نتنياهو مع الإدارة الأمريكية في جزئية ومرحلة من مراحل الحرب، وهذه الجزئية - مشروع الدولتين - المسببة للخلاف ليست بالشيء الجديد، فمنذ تبني أمريكا للمشروع في نهاية الخمسينات من القرن المنصرم ومن ثم سعيها لتطبيقه والوسط السياسي في كيان يهود يراوغ في تعطيله والتفلّت منه سواء الوسط اليساري المتمثل بحزب العمل الذي كان يتبنى مشروع الدولة الواحدة على كامل الأرض المباركة بمشاركة العرب مع استقرار الحكم والسيطرة والسيادة فيها لليهود، أو فيما بعد الوسط اليميني بقيادة حزب الليكود الذي يريد دولة قومية لليهود على كامل الأرض المباركة وإن كان في بداية نشأته يتحدث عن المناطق المحتلة عام 1948.
وهذه الجزئية وهي مشروع الدولتين هي عقدة الخلاف ومحور التوتر الحالي وربما الحصري بعد أن تم إخراج كيان يهود من سيناء عام 1973 وإخراجه من لبنان عام 1982 وكذلك توقيع اتفاقية وادي عربة مع الأردن... أي القضاء الكامل على أحلام يهود التوسعية في المنطقة وجعلهم يقبلون بواقعهم المحصور لهدف محدد وهو خدمة الغرب وأن يمثل كيانهم رأس حربة في إبقاء هذه المنطقة الخطيرة جداً في نظر الغرب في حالة نزف سياسي مستمر تحول دون توحدها ونهضتها على أساس الإسلام كمبدأ ونظام حياة، وهذا ما كان يقصده بايدن بقوله المكرر "لو لم تكن (إسرائيل) موجودة لعملنا على إيجادها"، وهذه الخصوصية لهذا الكيان الخبيث إضافة لأمور أخرى وظروف متغيرة جعلت الأمريكان يختارون طريق الإغراء والإقناع لكيان يهود ليقبل بوجهة النظر الأمريكية في إنهاء الصراع والمتمثلة بمشروع الدولتين الذي يحقق بنظر أمريكا مصالحها ومصالح كيان يهود، ويمثل أفضل مشروع يعطي فرصة له للاندماج والبقاء والاستمرار في المنطقة، هذا هو أصل الخلاف والتوتر قبل حرب غزة وبعدها وليس الحرب ولا مخلفاتها الكارثية فهذه تعتبر ديكورات للمشاريع الغربية الاستعمارية في العالم وفي بلاد المسلمين كما هو متحف الجماجم في باريس.
إن تصور طبيعة هذا الكيان وأهميته الاستعمارية الاستراتيجية للغرب تظهر أن تعنت سياسيٍّ خبيث مثل نتنياهو بدعم من تيار قومي وتوراتي بدأ يحلق في فضاء المنطقة ويظن أنه دولة قائمة بذاتها وقوتها ولها مصالحها الخاصة وشعارهم "لسنا نجمة أخرى على العلم الأمريكي والولايات المتحدة هي أفضل صديق لنا، ولكن قبل كل شيء سنفعل ما هو الأفضل لدولتنا"، ليس مدعاة في نظر دولة كبرى مثل أمريكا أن تقطع الحبل عن هذا الكيان وتجعله يواجه مصيره المحتوم، فالقضية عندها ليست متعلقة بشخص أو حزب أو وسط سياسي وإنما بكيان ومصالح استراتيجية، ولكن هو مدعاة للبحث عن وسائل وأساليب تغلق الطريق الذي يمضي به نتنياهو وحكومته القومية التوراتية بعقليتهم الإجرامية المتهورة والمتمردة نحو نهايتهم المحتومة التي يدركها الغرب، ولذلك من الدقة القول إن أمريكا بضغطها على كيان يهود للقبول بإحياء مشروع الدولتين وبحث كل ورقة تدفعه لذلك هو حرص على مصير كيان يهود وبالطبع ما يحققه وجوده من مصلحة لها وليس دفاعاً عن مشروع السلام بذاته.
وهذا يفسر إرسال المزيد من المساعدات العسكرية إلى كيان يهود رغم تعنت نتنياهو وحكومته وسعيه لتجاوز مشروع الدولتين الذي يشمل غزة ودون رجعة، وهذا يفسر الدعم الأمريكي الكبير للكيان بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، رغم أن ذلك جاء في عهد نتنياهو العدو السياسي اللدود لبايدن منذ عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وهذا يفسر استغلال نتنياهو وحكومته الظرف الحالي لفرض أجندات تثير غضب أمريكا ودون خوف من ردة فعل قاسية تؤثر على وجود هذا الكيان، هذا يفسر استمرار حرب الإبادة، فالخلاف الحاصل والذي يتوسع يوماً بعد يوم ليس على الدم والدمار والأشلاء، وليس على انتصار كيان يهود من عدمه، ولكن الخلاف على انتصار بمخرج يحيي مشروع الدولتين أو انتصار ينهي المشروع بلا رجعة كما يريده نتنياهو، والخلاف كذلك على الفترة المتاحة للحرب وحجم الدماء المسفوكة بشكل لا يؤدي إلى ضرر في الشأن الداخلي الأمريكي وضرر في المصالح الخارجية، وما هو أخطر من ذلك ثورة تطيح بأنظمة الخيانة في بلاد المسلمين وتعصف بمصالح أمريكا الاستراتيجية في المنطقة ومن ضمنها وجود كيان يهود.
وفي الختام: إن أمريكا دولة منافقة مجرمة بمبدأ لا إنساني يرتكز على مفهوم سياسي متوحش، وهو المنفعة المادية المتمثلة بمصالح أنانية استعمارية خاصة عند الدول الكبرى التي تجعل كل شيء يمثل حطباً للمشاريع السياسية من دماء وأشلاء ودمار، هو أمر ممدوح ومطلوب، وكل مشروع فتاك لتحقيق ذلك يمثل مشروعاً قيماً لا يمكن التخلي عنه كما هو واقع كيان يهود، وعند تلك المصالح تسقط الأقنعة لطبيعة المشهد كما هو حال المؤسسات الدولية ومنظمات الأمم المتحدة في هذه الإبادة الحاصلة، فيسقط عنها القناع الإنساني والحقوقي الزائف ويبقى القناع الاستعماري الحقيقي، ولذلك من العبث والمقامرة بدماء ومصير أهل فلسطين التعويل على تصريحات بايدن تلك أو الخلافات مع نتنياهو في وقف نزيف الدم المستمر في هذه الأرض المباركة ولا حتى في تخفيف الوتيرة وكبح نسبي لجماح نتنياهو وحكومته في ظل إدارة أمريكية ضعيفة ورئيس أرهقه الكبر وظرف محلي وإقليمي ودولي يراه كيان يهود مناسباً لفرض أجنداته القومية التوراتية، ومن الوعي السياسي الثمين التعويل على تحريك الأمة وتوجيهها لإسقاط الأنظمة العميلة وكسر قيود الجيوش وتنصيب قيادة مخلصة تقودها نحو النصر والتمكين ونصرة أهل غزة وفلسطين واقتلاع كيان يهود من جذوره وإلى الأبد.
بقلم: د. إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
21/2/2024