maqal15224

اختتم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن زيارته الخامسة إلى المنطقة، منذ بدء الحرب في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ضمن جولة تعتبر الأوسع التي يقوم بها إلى الشرق الأوسط، لبحث جهود وقف إطلاق النار في قطاع غزة وتهدئة التوترات في المنطقة، حيث زار السعودية ومصر وقطر وكيان يهود والسلطة الفلسطينية، وفي الزيارة طفا على السطح بعض الخلافات وظهرت هوة بين رئيس وزراء كيان يهود بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إذ عقد نتنياهو وبلينكن مؤتمرات صحفية منفصلة الأمر الذي كشف عن خلافاتهما حول قضايا تتراوح بين المرحلة التالية للحرب إلى كيفية تأمين إطلاق سراح المحتجزين لدى حركة حماس في غزة. وعقب الزيارة وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن الرد العسكري (الإسرائيلي) في غزة بأنه "مفرط" وتجاوز الحد، وهو أحد أشد انتقاداته للهجوم (الإسرائيلي) حتى الآن.

 

والمدقق في التصريحات التي خرجت من جانب كيان يهود وأمريكا، يلمس أن هناك نقاطاً حرص كل منهما على تثبيتها والحفاظ عليها والانطلاق لما بعدها.

 

فقد بدا واضحا على الجانب الأمريكي حرصه على التأكيد على ضرورة اعتماد فكرة حل الدولتين كخيار وحيد لما بعد الحرب، وحرصه على تحقيق هدنة إنسانية في قطاع غزة، وعدم إغلاق الباب أمام مفاوضات التهدئة، على الرغم من التباين الواسع بين موقف حركة حماس وفصائل المقاومة من جانب وقادة يهود من الجانب الآخر، إلا أن الإدارة الأمريكية وصفت رد حركة حماس والفصائل المجاهدة بأنه إيجابي ويمكن البناء عليه، وحتى عندما قرر قادة يهود رفض معظم شروط حماس والفصائل وأكدوا على عدم قبولهم للرد، بقيت الإدارة الأمريكية تشيع أجواء التفاؤل وإمكانية التوصل إلى اتفاق.

 

أما من جانب قادة يهود، خاصة نتنياهو، فقد استبقوا الزيارة وأعقبوها بالنقاط نفسها التي اعتبروها ثوابت لم تتغير ولن تتغير، وهي القضاء على حماس بالكامل، والإفراج عن الأسرى، وضمان ترتيب الأمور في القطاع على نحو يؤمن كيانهم. ولم يخف نتنياهو خلافه مع الإدارة الأمريكية بل ورفض الوساطة في إدارة هذا الخلاف واعتبر أنه قادر على إدارة ذلك الخلاف بنفسه، وذلك لثقته بأنه يمثل شعبه الذي بات كله بمتطرفيه وغيرهم مع الحرب واستمرارها، ولثقته بأن أمريكا لا تملك في النهاية إلا أن تقف مع كيان يهود في عدوانه على غزة وأهل فلسطين، ولاطمئنانه بدعم الأيباك له.

 

وقد رفض نتنياهو أن يعطي مجرد كلمة بقبوله بإحياء مسار حل الدولتين بعد الحرب، كما رفض التخلي عن فكرة اجتياح رفح، وهي آخر المدن في الجنوب التي تجمع بها النازحون والفارون من شمال القطاع ووسطه بحيث أصبح فيها أكثر من مليون نازح، وادعى أن هذه الخطوة الأخيرة اللازمة للقضاء على آخر الكتائب لحركة حماس البالغة 24 كتيبة. إذ يرى نتنياهو أن مسألة الهدنة والإفراج عن الأسرى مسألة يمكن تسويفها أو المماطلة فيها ريثما ينهي آخر مرحلة من مراحل القضاء على حركة حماس وكتائبها المقاتلة، خاصة أنه استمع إلى توصيات جهاز الأمن الداخلي لديه بضرورة تجنب التصعيد أو استمراره خلال شهر رمضان القادم الذي تبقى له قرابة الشهر.

 

فرغم أن أمريكا قد كررتها أكثر من مرة بأن كيان يهود قد تجاوز الحد في الرد، وأن الإدارة الأمريكية لن تدعم الهجوم على رفح، وتبعها في ذلك الإمعات والأذناب مثل السعودية والإمارات والأردن وقطر والكويت ومصر وبعض الدول الغربية كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، إذ علا صوتهم بعد التصريحات الأمريكية بترديد ما قالته الإدارة الأمريكية لا أكثر، وعلى الرغم من تهديد مصر تعليقها معاهدة السلام في حال احتل كيان يهود محور فيلادلفيا، إلا أن قيادة يهود ونتنياهو أعلنوا استعدادهم لمعركة رفح ووضعهم خطة مزدوجة لإجلاء النازحين واجتياح رفح، وأنهم قد يبدؤون تلك المرحلة في أية لحظة. وبذلك يريد يهود أن يحسموا أمرهم ويدفعوا معهم الغرب وأمريكا، لإنهاء التصعيد بإنهاء معركة رفح والتي تعني عندهم آخر معاقل حركة حماس والفصائل المقاومة، ولتبدأ بعدها مفاوضات التهدئة والهدن. ولأن واشنطن تريد أن تبقي الباب مواربا أمام يهود، فقد دفعت باتجاه مفاوضات بالقاهرة ترعاها مصر وقطر، وأعربت عن أن الأمر قد يستغرق أكثر من أسبوعين لإتمام الاتفاق، وهو الوقت الذي يقترب من الوقت الذي يحتاجه كيان يهود لإكمال مجازرهم وعدوانهم على ما تبقى من قطاع غزة وهو منطقة رفح.

 

والإدارة الأمريكية تعرف أنها لن تستطيع أن تنجز حل الدولتين أو تقترب منه ولكنها لا تريد أن تسمح ليهود بإماتة ذلك الحل لقضية فلسطين، ولذلك لا تريد أن تسمح ليهود بوضع المزيد من العراقيل والترتيبات التي تجعل الحل مستحيلا، وهم آخر ما يهمهم دماء المسلمين وأطفالهم ونساؤهم، وتريد أن تذهب بالأمور نحو التهدئة مؤقتا لما لذلك من أثر على الانتخابات الأمريكية التي دخلت سنتها، وقادة يهود يدركون ذلك جيدا ولذلك هم لا يتعاونون مع أمريكا في هذا الأمر ويرفضون منح الإدارة الأمريكية الموافقة على ترتيبات حل الدولتين.

 

وبالطبع أمريكا لا تريد حل الدولتين حبا بأهل فلسطين أو شفقة عليهم أو حقنا للدماء، بل تريده لأنه الحل الخبيث الذي يضمن مصالحها ومصالح كيان يهود في المنطقة، وترى أن يهود بإجرامهم وأطماعهم إنما يقتربون من هدم المعبد على رؤوسهم ويذهبون إلى حتفهم بأيديهم. وأما يهود فهم بطمعهم المعهود وتكبرهم لا يرون ذلك، بل قادهم الغرور إلى أن يحسبوا أنفسهم قادرين على كل شيء، ولذلك يريدون تنفيذ رؤيتهم "بمملكة إسرائيل"، وقد تشكل رأي عام متطرف داخل كيان يهود، فلم يعد التطرف محدودا أو محصورا بأحزاب معينة أو شخصيات محددة، بل أصبح التطرف سمة عامة، واشتعلت فيهم المفاهيم التوراتية، ولذلك نجد أن هناك إجماعاً عند يهود على إكمال الحرب وتحقيق أهدافها، وباتوا يعتبرون المسألة صراع وجود وليست مجرد مواجهة.

 

ومما لا شك فيه أن الإدارة الأمريكية ووزير خارجيتها بلينكن ورئيسها بايدن شعروا بالحرج في الجولة الأخيرة، ما دفعهم إلى تغيير نبرة الكلام مع يهود وتصاعد التصريحات المزعجة من قبلهم لكيان يهود، إذ إن نتنياهو بمواقفه وتصريحاته الأخيرة، قد أفرغ زيارة بلينكن من فحواها، ويمكن القول إنه أفشلها بالأعم الأغلب، ولولا تدارك الأمريكان لذلك بإبقاء باب المفاوضات مفتوحا وإشاعة أجواء الأمل والإيعاز للقاهرة بمواصلة جلسات التفاوض واللقاءات، لكان يلزم الإدارة الأمريكية أن تعلن عن فشل مساعيها في إبرام التهدئة أو الاتفاقية.

 

وفي المقابل، لا يتوقع من أمريكا أن تكشف ظهر يهود أو تخذلهم في حربهم الإجرامية على غزة، فبالنهاية هم أولياء بعض، ويجمعهم العداء للأمة ولأبنائها، ودماء المسلمين عندهم هدر ولا قيمة لها، وكل ما يصدر عنهم أحيانا من تباكٍ أو دموع إنما هي دموع التماسيح وبكاء كاذب خبيث، وأقصى ما قد تفعله الإدارة الأمريكية المجرمة الموالية لكيان يهود هو ألا توفر لهم كامل أجواء الراحة والطمأنينة والإمداد في خطوتهم الأخيرة للقضاء على حركة حماس والمجاهدين في غزة، لتحول دون مد يهود الحرب إلى أشهر عديدة ولتحول دون تمكن نتنياهو من البقاء في غزة ما بعد الحرب أو البقاء في الحكومة.

 

أما دماء المسلمين وأطفالهم وشيوخهم فستبقى مهراقة في شوارع غزة ما لم تتحرك الأمة الإسلامية وجيوشها لنجدتهم ونصرتهم، فهذا هو الواجب عليهم تجاه إخوانهم الذي يقتلون ويسحقون على يد آلة الإجرام اليهودية والغربية. ومن يعول على غير الأمة وجيوشها، فهو واهم.

 

 

بقلم: م. باهر صالح

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)