كان يمكن أن يكتب تاريخ جديد لفلسطين بل للأمة الإسلامية جمعاء بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وكان يمكن لطوفان الأقصى أن يكون عنوانا لمعركة فاصلة تعيد فينا سيرة حطين وعين جالوت، وتنهي أكثر من سبعين عاما من الاحتلال اليهودي المجرم للأرض المباركة فلسطين، نقول كان ولا زالت إمكانية تحقيق ذلك قائمة، ولا زالت الفرصة سانحة، فالأجواء مهيأة، والقدرات متوفرة، في انتظار قرار جريء من قيادة مخلصة، تأخذ زمام المبادرة فتقلب الطاولة، وتفسد مخططات الغرب الكافر وأدواته في المنطقة، وتضع مصالح الأمة وقضاياها المصيرية نصب عينيها، يدفعها الإيمان بالله وحسن الظن به سبحانه، واليقين بنصره لعباده المؤمنين، ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.
أربعة أشهر منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 ولا زال كيان يهود مستمرا في مجازر الإبادة الجماعية، ساعيا لتهجير أهالي قطاع غزة، ومخططات الهيمنة وإحكام السيطرة على الضفة الغربية دون أن يجد من يأخذ على يديه فيقطعها، ويوقف شلال الدم المتدفق في فلسطين.
وبدل أن يكون هذا الوضع الكارثي في فلسطين والمأساة المتواصلة بشكل يومي واستصراخ أهل فلسطين لمن ينصرهم، دافعاً لقوى الأمة الحية وعلى رأسها وفي مقدمتها حملة السلاح من الجيوش في بلاد المسلمين للتحرك، وأخذ دورهم الذي يفرضه الواجب الشرعي، بدلا من ذلك نجد صمتا مطبقا يكاد يكون شريكا في قتل غزة وأهلها، مع ترك الساحة مفتوحة لمن يتاجر بالدماء الزكية والتضحيات الجسام لتكون ثمنا لمشاريع الاستعمار طمعا في تصفية قضية فلسطين والإجهاز عليها، يجعلون من المبادرات والحلول الدولية مخلصا ومنقذا، وإلا فالإبادة الجماعية والتهجير ما ينتظر أهل فلسطين.
لا زال البعض يتعلق بحبال الهواء الغربية، يمنون أنفسهم بوعود أمريكا وأوهامها، التي تخادع بها أدواتها من الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين والسلطة، بينما كيان يهود بعنجهية وغطرسة يضرب بكل رأي أو حل عرض الحائط، ويدوس بكلتا قدميه على كل مبادرة أو مشروع، يبعثر الأوراق ويطمس المعالم، حتى بات أشقياء يهود لا يتورعون عن الجهر بمعاكسة ومشاكسة مسؤولي الإدارة الأمريكية، بمن فيهم الرئيس بايدن، فقد اعتبر البعض تصريحات رئيس وزراء الكيان نتنياهو وإعلانه رفض حل الدولتين نوعاً من التكذيب للرئيس بايدن، ومثل ذلك إعلان بتسلئيل سموتريتش أحد زعماء المستوطنين رفضه العقوبات الأمريكية على المستوطنين ولو طالته شخصيا، حتى قرار الجنائية الدولية الذي عول عليه الكثيرون، وأعطوه أكثر من حجمه لم يمنع كيان يهود من فرض مخططاته ورؤيته على الأرض، دون الاكتراث لتهديدات أي طرف من الأطراف، فلا زال سادرا في غيه ماضياً في ارتكاب جرائمه بشكل يومي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومن الواضح خاصة في هذا التوقيت حيث تنشغل أمريكا بانتخاباتها الرئاسية، فإنها غير معنية بالضغط على يهود وفرض رؤيتها السياسية لاعتبارات انتخابية، بالإضافة إلى اهتمامها بالمحافظة على صورة الكيان، وقوة ردعه وهيبته في المنطقة، بعد أن هشم مجاهدو غزة الأبطال وجهه القبيح ومرغوا أنفه في التراب وكشفوا سوأته وفضحوا هشاشته وضعفه.
إننا ننظر بعين الريبة والشك إلى تلك الدعوات لما يسمى بالمشروع الوطني الفلسطيني، وإعادة بناء منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد لأهل فلسطين، والتي تأتي من أطراف فلسطينية مختلفة (أشخاص وفصائل) بوعي أو بدون وعي، فإنها شكل من أشكال التماهي مع مشاريع التصفية لقضية فلسطين، إذ إن الحديث عن دولة فلسطينية في حدود 67 يعني قبول المحاصصة مع كيان يهود، وهو عينه القبول بحل الدولتين الاستعماري الأمريكي، ولا يغير من هذا المعنى التلاعب بالألفاظ، والشعارات الرنانة، والفذلكات السياسية.
والسؤال الذي يجب أن يطرح على أولئك المهزومين في أنفسهم قبل عدوهم، وأولئك المرتبطين بمصالحهم فباعوا قضايا أمتهم بثمن بخس: هل كانت تضحيات أهل فلسطين الممتدة على أكثر من سبعين عاما من أجل كيان كرتوني لا يملك أي شكل من أسباب الحياة ولو بمثقال ذرة؟! وحتى بعد أكثر من أربعة شهور من أعمال السحق والإعدام والهدم والإبادة الجماعية التي يمارسها يهود، ولا زال يوميا في قطاع غزة، هل يظن أولئك السماسرة والعملاء أن أهل فلسطين يقبلون بأن تكون نهاية جهادهم ورباطهم وصمودهم الأسطوري أمام آلة القتل والإجرام اليهودي تصفية قضيتهم والإجهاز عليها تحت عنوان حل الدولتين؟! أو أقل أو أكثر منه، والذي يعني في حال تطبيقه التخلي عن 80% من أرض فلسطين لصالح يهود في مقابل فتات وكنتونات مشرذمة في ظل الانتشار السرطاني للمستوطنات في الضفة الغربية وأعمال التهويد لمدينة القدس.
الأصل في كل حر ومخلص، وهو يرى هول الإجرام، وفداحة الكارثة، وعظم التضحيات أن يرتقي في خطابه ومطالبه إلى مستوى صمود الناس، وصبرهم وثباتهم وتضحياتهم، والذين لا يقبلون بأقل من تحريرهم وتطهير فلسطين بتمامها وكمالها من بحرها إلى نهرها من دنس يهود، والذي يستدعي بالضرورة الخروج من قمقم الوطنية المقيتة، والتوقف عن تقزيم قضية فلسطين كقضية وطنية خاصة بأهلها، والانطلاق بها إلى أفق الأمة الواسع والرحب، وإعادتها إلى هويتها الحقيقية بوصفها قضية للأمة الإسلامية الممتدة في مشارق الأرض ومغاربها يزيد تعدادها على ملياري مسلم، وتملك من المقدرات المادية والبشرية ما يجعل وجود كيان يهود بينها مستحيلا فضلا عن بقائه أكثر من سبعين عاما لولا خيانة وعمالة حكامها.
أمام هذا الواقع الذي نعيش، والذي يضعنا أمام حقائق كالشمس، لا يماري فيها إلا خائن متواطئ، وهي أن فلسطين أرض إسلامية مغتصبة يجب تحريرها، والأمة قادرة على ذلك، وما يمنع تحريرها هي الأنظمة العميلة القائمة في بلاد المسلمين، والتي تشكل جدار الحماية لكيان يهود، ولولا وجودها لكان خلع كيان يهود أسهل علينا من خلع شوكة في نعل أحدنا، وقد أثبتت أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) هذا، فكانت حجة على كل قادر، وعبرة لكل معتبر، ولا عذر لمتخلف أو معتذر.
لهذا فالأمة الإسلامية أمام استحقاق شرعي واستحقاق تاريخي يوجب عليها أن تنفض عن نفسها غبار الذلة والهوان، وكسر قيد الحكام الذي يمنعها سلطانها وأخذ مكانتها، والخروج من حالة الوهن والغثائية، وإن مفتاح ذلك هو في يد جيوش الأمة، التي فيها الخير الكثير بما يحقق للأمة مساعيها في التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار وأدواته، لتكون خير أمة أخرجت للناس، وإن حزب التحرير بينكم، منكم وفيكم لم ينفك ينصح لكم، ويدعوكم لخيري الدنيا والآخرة، بإقامة دولة الإسلام، دولة الخلافة، التي بها بإذن الله يكون تحرير فلسطين كما فعلتها من قبل على يد الفاتحين؛ زمن عمر الفاروق، وعلى يد المحررين الأبطال قطز وصلاح الدين وعبد الحميد.
فانصروا حزب التحرير وآزروه فهو جدير بقيادتكم، حريص عليكم، أمين على قضاياكم ومصالحكم، رائد لا يكذب أهله، فلا زالت الفرصة سانحة فاغتنموها، والأرضية مهيأة، ووعد الله لا زال قائماً، وهو متحقق بإذن الله لعباده المؤمنين، ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً﴾.
بقلم: الأستاذ خالد سعيد
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)