على ساحل البحر الأحمر وفي تلك المدينة الساحلية المهمة عقدت قمة العقبة الثلاثية التي جمعت رأس النظام الأردني عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وذلك على بعد مئات الأمتار فقط من مدينة إيلات المحتلة من كيان يهود وشواطئ الاستجمام لمستوطنيه، وقد كان لزمان القمة وتوقيتها أهمية لا تقل عن أهمية المكان الذي عقدت به؛ فهي القمة الثلاثية الأولى بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وجاءت مباشرة عقب زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للمنطقة - وهي الجولة الخامسة له منذ بداية الأحداث -، وفي خضم حرب إبادة لا تتوقف في قطاع غزة. وسوف نقف في هذه المقالة على طبيعة هذه القمة ودلالاتها في ظل ما يحدث في غزة، وعلاقتها بزيارة بلينكن الأخيرة للمنطقة، وما الذي تمخض عن هذه القمة سواء في البيان المعلن أو في الخفاء؟
وقبل الحديث عن القمة الثلاثية لا بد من التعريج على زيارة بلينكن للمنطقة والهدف منها وربط ذلك بقمة العقبة حتى يكون التصور السياسي لهذه القمة ومخرجاتها أكثر وضوحاً. وبالنظر إلى زيارة بلينكن إلى المنطقة والتي شملت عدداً من الدول العربية وكذلك تركيا وكيان يهود وسلطة رام الله يُرى أنها جاءت لعدد من الأهداف السياسية المختلفة ولكن كلها على علاقة بما يحصل في فلسطين بشكل عام وقطاع غزة بشكل خاص، مثل ترتيبات ما بعد الحرب، وعلاقة ذلك المباشرة بالنظام المصري وغيره من الأنظمة في بلاد المسلمين بشكل عام، ودورها المستقبلي في إعادة الإعمار، والتوتر الحاصل على جبهة لبنان والمحافظة على انضباط حزب إيران بالتوجه الأمريكي المانع للتصعيد، أو ما يحصل في الضفة وعلاقته بالأردن المتخوف من أجندات حكومة نتنياهو بخصوص الضفة الغربية.
ولكن أبرز تلك الأهداف وله علاقة بقمة العقبة، هو الضغط على كيان يهود للتخلي عن فكرة احتلال قطاع غزة وتهجير أهلها وأن المخرج الذي يحقق له تغيُّراً للواقع السياسي والعسكري بعد وقف العمليات العسكرية وبعيداً عن حركة حماس هو تسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية بإشراف ودعم من أمريكا والأنظمة التابعة لها في المنطقة، خاصة وأن أمريكا ترى كيان يهود يتقدم ببطء وعاجز عن إنهاء العملية العسكرية بالشكل الذي يريده والذي يعطي له مساحة لتنفيذ أجنداته المتعلقة بالتهجير والسيطرة العسكرية المباشرة، وهذا التعثر بات يضغط عليه للسير مع أمريكا في توجهها بعد الحرب وتستغله أمريكا، وفي سياق متصل توجه بلينكن لرام الله وأعطى أوامر صارمة لرئيس السلطة للقيام بالترتيبات الإدارية والسياسية اللازمة لتكون السلطة جاهزة ومهيأة لإعادة استلام قطاع غزة وإعادة ترتيب أوراقها في الضفة حال إعطاء كيان يهود المساحة اللازمة لها لذلك، وضمن هذا الهدف السياسي - تهيئة الأجواء والأرضية اللازمة لإعادة السلطة إلى قطاع غزة - جاءت قمة العقبة.
فقد ركز البيان الختامي على ضرورة الاستمرار بالضغط لوقف الحرب على قطاع غزة وتقليل الخسائر البشرية تحت مسمى حماية المدنيين وضرورة ضمان إيصال المساعدات الإغاثية والإنسانية إلى القطاع، والتأكيد على ضرورة التصدي لأي خطط (إسرائيلية) تهدف لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، والتحذير من محاولات إعادة احتلال أجزاء من القطاع أو إقامة مناطق آمنة فيه وضرورة إدانتها دولياً والتصدي لها، ورفض جميع محاولات تصفية القضية والفصل بين غزة والضفة وأهمية وقف الأعمال العدائية التي يقوم بها المستوطنون في الضفة الغربية والانتهاكات للمقدسات في القدس، والتحذير من خروج الوضع هناك عن السيطرة، وتفجر الأوضاع بالمنطقة.
وبالتالي جاءت هذه القمة بطلب من أمريكا ولهدف سياسي تريده أمريكا بعد الحرب، وهو الدفع باتجاه إعادة تسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، وتوجيه رسائل واضحة لكيان يهود أن موضوع التهجير مرفوض عند النظامين المصري والأردني، وأن الحل هو فيما تطرحه أمريكا من تصور لما بعد الحرب التي باتت مصدر قلق عند تلك الأنظمة في ظل إبادة لا تتوقف وفي بث حي ومباشر يرفع حرارة الشارع والرأي العام الغاضب من خيانة الحكام وتآمرهم، وأمريكا تريد من هذا التوجه لما بعد الحرب إعادة بث شيء من الحياة لمشروع الدولتين القائم على ركيزتين - الضفة وغزة - ويتطلب إعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة.
أما الوزن السياسي لهذه القمة في فرض التوجه الأمريكي لما بعد الحرب فهو لا يذكر، وإنما هو موقف مكمل ومساند في حال قَبِلَ كيان يهود بالخضوع للطلب الأمريكي وتسليم قطاع غزة للسلطة أو في حال نجاح أمريكا في فرض ذلك على كيان يهود المصرّ إلى الآن على إكمال العملية العسكرية بنسختها التدميرية الدموية لاهثاً خلف إنجاز يرمم له شيئا من صورته وساعياً لتحقيق أهداف الحرب الأخرى وعلى رأسها إنهاء أي تهديد مستقبلي من قطاع غزة، ولكن بإخراج تدميري لكل ما تبقى من حياة في القطاع ليصبح التهجير "الطوعي" أمراً واقعاً لا بديل له! وهو يمضي في سياسته بين تفلت وانضباط بترتيبات أمريكا، ولكن طبعاً دون أن يلتفت إلى قمة العقبة والمجتمعين المجمعين معه على ضرورة أن تنتهي الحرب بالنجاح في تغير الواقع السياسي والعسكري في القطاع، والمختلفين معه على ترتيبات ما بعد الحرب؛ فهو يريد التهجير والضم وهم يريدون مشروع سيدتهم أمريكا مشروع الدولتين الخياني لإنهاء الصراع والانطلاق نحو التطبيع والاندماج الكامل لكيان يهود في المنطقة التي تريدها أمريكا رأس حربة لها ضمن مشاريع سياسية واقتصادية وعسكرية تبقي لها هيمنتها على العالم والتربع على عرش الدولة الأولى ومنع نهضة المسلمين، ولتستخدمها أيضاً في مواجهة الصين، وكذلك تريد تلك الأنظمة تصفية قضية باتت مصدر قلق على عروش باتت الخيانة والتفريط تؤزها أزاً.
وفي الختام، إن هذه القمم صورة عن حالة الضعف والهوان للحكام، وذلك بسبب عمالتهم للغرب وتسليم قرارهم لأمريكا وجعل مقدرات البلاد وقوتها العسكرية رهن توجهاتها الاستعمارية الحريصة على كيان يهود والناقمة على أمة الإسلام وبلادها وعقيدتها، ولا خلاص لأهل فلسطين في ظل هذا الواقع السياسي الكارثي في بلاد المسلمين إلا أن تتحرك الشعوب المسلمة وأهل القوة فيهم خلف قيادة سياسية واعية تسقط الأنظمة العميلة وتحرر بلاد المسلمين من النفوذ الغربي وتتخذ قراراتها السيادية وفق عقيدة الإسلام ومصالح المسلمين المنضبطة بالأحكام الشرعية فتتحرك من فورها لتحرير فلسطين والقضاء على كيان يهود.
بقلم: الدكتور إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)