بقلم: المهندس باهر صالح*
من اللافت للنظر حجم التصريحات التي خرجت وما زالت تخرج من أفواه القادة والمسؤولين في أمريكا وأوروبا وكذلك أدواتهم الحكام في بلادنا حول مسألة حل الدولتين، وضرورة إقامة الدولة الفلسطينية ما بعد انتهاء الحرب على غزة، فرغم أن لغة الواقع واللحظة هي القصف والقتل والدم الدمار، إلا أن قادة الغرب وعملاءهم ورغم دعمهم المطلق لكيان يهود في إجرامه ووحشيته وحرقه الأخضر واليابس، إلا أنهم يؤكدون على ضرورة الوصول إلى حل الدولتين كحل للصراع وحق الفلسطينيين في دولة فلسطينية هزيلة! فقد أكد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن خلال كلمته في منتدى نظمته مؤسسة "رونالد ريغان" الرئاسية في كاليفورنيا على أن دعم الولايات المتحدة لـ(إسرائيل) "ليس خاضعا للتفاوض ولن يكون كذلك أبدا". واعتبر في الوقت ذاته أن "حل الدولتين" هو الطريقة الوحيدة الممكنة للخروج من النزاع الفلسطيني (الإسرائيلي)، ولفت أوستن إلى أنه على (الإسرائيليين) والفلسطينيين إيجاد طريقة لتشارك الأرض التي يعتبرونها وطنهم.
وقال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الأربعاء، إن إدارة الرئيس جو بايدن، ترغب في حدوث تمديد جديد لاتفاق وقف إطلاق النار بين (إسرائيل) وحماس، معتبرا أن "حل الدولتين هو المسار الوحيد للسلام بالشرق الأوسط".
ومن قبلهما قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، الثلاثاء، إن حل الدولتين هو السبيل الوحيد لضمان الأمن على الأمد الطويل للفلسطينيين و(الإسرائيليين)، وأضاف بايدن عبر منصة "إكس" أن الولايات المتحدة لن تتوقف عن العمل من أجل تحقيق حل الدولتين "لضمان تمتع الفلسطينيين و(الإسرائيليين) بالحرية والكرامة على حد سواء".
وكذلك توافقت دول عربية والاتحاد الأوروبي خلال اجتماع "منتدى الاتحاد من أجل المتوسط" في إسبانيا الاثنين، على أهمية حل الدولتين لإنهاء النزاع (الإسرائيلي) الفلسطيني.
وكذلك اجتماع مجلس الأمن الدولي الوزاري حول الوضع في الشرق الأوسط، بما فيه القضية الفلسطينية، فقد دعا إلى تعزيز حل الدولتين كحل للصراع.
وحتى الصين، فقد اقترحت في ورقة صدرت الخميس، بشأن الصراع (الإسرائيلي) الفلسطيني أن يكثف مجلس الأمن الدولي وساطته الدبلوماسية ويعيد إطلاق حل الدولتين، ويدعو لمؤتمر سلام دولي يكون "أكثر موثوقية وفاعلية" في أقرب وقت ممكن.
بل وحتى بعض قادة الدول الأوروبية الذين لا وزن لهم في السياسة الدولية أو أحداث الشرق الأوسط، إلا أنهم يعزفون على النغمة الأمريكية نفسها وبالرؤية ذاتها؛ فقد لوّح رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز عند معبر رفح على الحدود بين قطاع غزة ومصر، الجمعة، باتخاذ قرار فردي للاعتراف بفلسطين دولة مستقلة إذا لم يقم الاتحاد الأوروبي بهذه الخطوة، وقالت إن الهدنة المؤقتة في غزة غير كافية، داعية إلى وقف دائم لإطلاق النار. وقال الرئيس المصري السيسي، خلال مؤتمر صحافي مشترك بالقاهرة، مع رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، ورئيس الوزراء البلجيكي، ألكسندر دي كرو: "قلنا إننا مستعدون أن تكون هذه الدولة منزوعة السلاح وأيضا هناك ضمانات بقوات سواء هذه القوات من الناتو أو قوات من الأمم المتحدة، أو قوات عربية أو أمريكية، مثل ما تروه مناسبا، حتى نحقق الأمن لكلتا الدولتين، الدولة الفلسطينية الوليدة والدولة (الإسرائيلية)". وأضاف "لا بد (من) التحرك بشكل مختلف وهو الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإدخالها الأمم المتحدة... هذا يعطي جدية".
وبذلك تكون أمريكا، صاحبة التأثير الأقوى في الملف، تريد جعل رؤيتها لحل الصراع، رؤية حل الدولتين، هو الخيار الوحيد المتاح والمطروح للخروج من الأزمة والصراع، سواء من خلال الدعوة له وتهيئة الأجواء والظروف التي تساهم في إنجاحه، أو من خلال استبعاد كل الأطروحات الأخرى وجعلها مستحيلة وغير قابلة للتطبيق، أو حتى من خلال التلويح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وإدخالها إلى الأمم المتحدة لإحراج يهود ووضعهم تحت الأمر الواقع، كما لوح بذلك رئيس وزراء إسبانيا والرئيس المصري.
فلأن أمريكا أدركت أن يهود يتهربون من الدولة الفلسطينية ويريدون جعل ذلك مستحيلا على أرض الواقع، من خلال فكرة التهجير في الحرب الدائرة مثلا، فقد أوعزت إلى عميلها السيسي وعميل بريطانيا في الأردن إلى إظهار الرفض القاطع واعتبار ذلك بمثابة إعلان حرب على الأردن ومصر، ومساساً بالأمن القومي، وحركا من أجل ذلك القوات والدبابات ووضعاها على الحدود للتأكيد على كيان يهود بأن هذا الخيار غير متاح أمام يهود، حتى لو واصلوا قتل أهل غزة بحرب إبادة إلا أن التهجير غير متاح أمامهم بقرار أمريكي، وذلك بعد أن صرح قادة أمريكا بأنهم ضد التهجير القسري ويرفضونه.
وكذلك عملت الإدارة الأمريكية على التواصل مع قيادة السلطة الفلسطينية لوضعها في صورة ضرورة المحافظة على الأمن في الضفة والاستعداد للمشاركة السياسية في غزة ما بعد الحرب من أجل السعي للوصول إلى حل الدولتين الأمريكي، وأرادت من ذلك ضمان عدم خروج السلطة عن الخطوط المرسومة التي من شأنها أن تعيق أُمنية يهود في تفجير الأوضاع في الضفة أو تهجير أهلها نحو الأردن.
فأمريكا من جانب تدعم كيان يهود وتمده بالسلاح والمال والغطاء الدولي والسياسي لمواصلة حرب الإبادة على غزة للقضاء على المجاهدين وتفكيك البنية العسكرية لحركة حماس تمهيدا لتحويلها إلى حركة سياسية أو إخراجها من المشهد كله، وكذلك تحيط أمريكا كيان يهود بصمامات أمان من خلال حضورها العسكري الضخم للحيلولة دون خروج الأمور عن السيطرة في المنطقة على نحو قد يقلب الطاولة على رؤوس يهود، وهي بذلك تجعل قادة يهود يلمسون أن سر حياتهم بيدها، وأنهم لا يستطيعون المواصلة إذا ما رفعت يدها عنهم، وهذا ما دفع يهود إلى التنسيق الكامل مع أمريكا وبالتفاصيل العسكرية في الحرب التي تجددت والخضوع للاشتراطات الأمريكية، ومن جانب آخر هي تعاود التأكيد على حل الدولتين وجعل ذلك الخيار الوحيد المتاح أمام يهود بإغلاق كل المسارات والأمنيات الأخرى التي يسير فيها يهود، وتستعمل بذلك نفوذها أتباعها وأدواتها.
وإصرار أمريكا على حل الدولتين آت من رؤيتها أن ذلك الحل هو الذي من شأنه أن يحفظ كيان يهود ويثبته في الأرض المباركة فلسطين، ويحافظ عليه خنجرا مسموما في خاصرة الأمة الإسلامية وقاعدة متقدمة لأمريكا في الشرق الأوسط، لا كما يتصرف يهود الذين يعجّلون بنهاية دولتهم بتصرفاتهم ومخططاتهم التي تؤجج الصراع وتقودهم نحو المواجهة مع الأمة الإسلامية، وهو ما يعني سيرهم نحو حتفهم الأكيد.
لذلك فإن المناداة بحل الدولتين أو القبول به هو بمثابة القبول بتصفية قضية فلسطين والسير في مخطط تمكين الاستعمار وإدامة عمره في بلادنا.
والحمد لله أن الله ييسر ما يعيق مخططهم ويجعل حل الدولتين يوما بعد يوما صعب المنال وغير قابل للتطبيق، حتى ييسر الله لفلسطين من يحرك الأمة وجيوشها لتحريرها وخلع الاحتلال من جذوره.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)