بقلم: أ.يوسف أبو زر*
خلال الحرب التي تدور الآن في غزة، وخاصة في ظل الكلام عن التهجير وفي ظل المجازر من قبل كيان يهود، خرجت مطالبات وطرحت أسئلة عن موقف الأنظمة خصوصا من دول الجوار، وعن احتمالات التدخل في الحرب، قابلها رد من الأنظمة وأبواقها بالكلام عن السيادة والأمن القومي لبلدانها كتفسير ومبرر، أو تغطية، لموقفها الجبان والمتخاذل والمتآمر الذي اتخذته، وفي هذه المقالة حديث عما يسمى بالأمن القومي في مفهومه العام وليس المفصل، ودون تفكيك لألفاظ المصطلح، وعن الأمن القومي في المنطقة العربية وذلك على ضوء الأحداث الجارية.
مفهوم الأمن القومي هو معنى يتعلق بانتفاء الأخطار التي تهدد الدولة في أمنها بمفهومه الواسع، من حيث وجود الدولة ونظامها وسيادتها، وحياة رعاياها وأمنهم العسكري والمعيشي، ومصالحها الحيوية، ومستوى قدراتها ومقدراتها، ويعتبر أي تهديد لذلك سواء في الحال أو في المآل هو تهديد للأمن القومي، أما بالنسبة للدولة المبدئية، وخاصة الدولة الإسلامية، فتأتي العقيدة والمبدأ قبل ذلك كله، ففي ثناياه طريقة الضمان والتنفيذ لكل ما سبق.
ومن ثم، فإن قائمة تلك المخاطر التي تعطي مضمون الأمن القومي قد تطول وتقصر بحسب طبيعة الدولة هل هي دولة عظمى أو كبرى، أو إقليمية، أو دولة قطرية، أو مبدئية أو غير ذلك، من هنا كان لكل دولة محددات وضعتها لنفسها، حددت فيها مجال أمنها القومي ودائرته وقضاياه، وطبيعة الأعداء والتهديدات، وبات سلوكها مرتبطا بتلك المحددات، فكانت الدول العظمى والكبرى مجالها العالم، أما الدول الإقليمية فمجالها الإقليم، ومما يوضح ذلك هو كيفية تعامل الدول مع القضايا، فمثلا تعتبر دولة كأمريكا أن المحيطات والبحار، والصحاري والقارات هي أمكنة تؤثر في أمنها القومي، وأن التوتر في أقاصي الأرض قد يكون مهددا لأمنها القومي، لا فرق بين فيتنام وبنما، أو أفغانستان والعراق، أو تايوان وبحر الصين والشرق الأوسط، وأن مصادر الطاقة والخامات، وطرق الطاقة، وتسلح البلدان، وتغير الأنظمة وأنشطة الجماعات، والاختراعات والأدوية، والتكنولوجيا وإنتاج الرقاقات، هي فقط نماذج لما يمكن أن يدرج ضمن قضايا أمنها القومي، ولذلك كانت أساطيلها ونيرانها، أو دبلوماسيتها وسياستها، تمتد حيث يصل ما تسميه أمنها القومي، وتدخلاتها في هذا السياق لا حصر لها.
ويقاس عليها بدرجات متفاوتة بقية الدول، فروسيا مثلا تعتبر أن التدخل في دول الجوار المحيطة بها، أو في حديقتها الخلفية هو مساس بأمنها القومي، وأن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو هو تهديد مباشر لأمنها القومي يقتضي دخول حرب كبيرة مدمرة، وهكذا فرنسا في أفريقيا، وكما هي بريطانيا، وكذلك الصين مع جوارها وطرقها التجارية، وهكذا كل دولة مستقلة فيما يتعلق بأمنها ووجودها ومصالحها الحيوية، وكل هذه الدول بالمناسبة تجتمع على أن انبعاث الإسلام كفكرة وكدولة هو خطر محدق بأمنها القومي جميعا.
ومثلا من الدول التي يشكل أمنها القومي قضية بالغة الحساسية، بل وقضية وجودية، هو كيان يهود، حيث لم تتكئ دولة الكيان فقط على كونها مصلحة للدول الكبرى وبالتالي حمايتها، ولكنها عملت على إنشاء قوتها الذاتية بناء على رؤيتها الذاتية لنفسها وأمنها.
ولذلك، فقد صار من الطبيعي أن يكون النشاط العسكري واستعمال القوة عند التهديدات من مقتضيات الأمن القومي، وكذلك زيادة التسلح، وامتلاك الردع واحتكار القوة، وبناء التحالفات، وإضعاف العدو الذي تبرز قوته، وهكذا هي الدول، تستبق الأخطار وتبذل الغالي والنفيس لأجل أمنها القومي، حتى كيان يهود المسخ كان يده الباطشة تصل إلى أماكن بعيدة لتغتال العلماء، أو تنفذ العمليات التي تهدد أمنها القومي، أو تدمر أسلحة الخصوم كما حصل في تدمير المفاعل النووي العراقي ومشروع سوريا في دير الزور، وتنفذ العمليات في أعالي البحار وتمارس التجسس على العالم أو تمارس إضعاف الدول المعادية.
هذا المفهوم للأمن القومي استبدلته الأنظمة في بلاد المسلمين وخاصة في البلاد العربية بمفهوم مقلوب ومغاير لما هو عند الدول في العالم، حيث كان كالتالي:
1 – معنى الأمن القومي في البلدان العربية هو أمن النظام، وما يقتضيه بقاء النظام، ولو كان على النقيض من أمن القطر أو الدولة أو الأمة فعلا.
2 – الأمن القومي لدى الأنظمة هو جزء من منظومة الأمن القومي للدول الاستعمارية بالتبعية بحكم عمالتها، وبالتالي فإن العدو الذي تتخذه تلك الأنظمة عدوا هو عدو الدول الكبرى.
ولقد ترتب على ذلك أن شكلت الحركات الإسلامية، بذريعة التطرف عدوا لها، ومثلها توجهات الشعوب، بينما لا ينظر للقواعد العسكرية الأمريكية أو كيان يهود كعدو، بل صارت دول كدول الخليج تعمل على التحالف مع كيان يهود ضد إيران أو تطلب الحماية من الأمريكان.
وترتب عليه أيضا أن فرطت تلك الأنظمة بعناصر القوة ومقدرات البلاد، وسكتت عن كل المؤامرات والتهديدات والأخطار، كالسكوت عن حبس النيل عن مصر والسودان من قبل أثيوبيا بمعاونة كيان يهود، وتسليم مفاتيح الطاقة والغاز والكهرباء والماء لذلك الكيان في مصر وبلاد الشام، بل وجعله بؤرة الاقتصاد، وبوابة التجارة في الخط التجاري الجديد الممتد من الهند إلى سواحل المتوسط، وتسهيل اختراقه الاستخباراتي بالتطبيع، ومثل ذلك يقال عن الإضعاف العسكري للجيوش وتقليصها، والهشاشة الاقتصادية والتبعية، والتخلف الصناعي، والسكوت عن العبث في قيم المجتمع والتخريب العقائدي بما ينزع من المجتمع صلابته وقدرته على الصمود.
وبينما تتطلب هيبة الدول وأمنها القومي طابع الهجوم والردع، تصور تلك الأنظمة لشعوبها أن الأمن القومي لها هو الخنوع والسلم وإيثار السلامة، والانكفاء للداخل، ولسان حالهم أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، كما يحصل الآن في مصر والأردن وغيرهما بينما غزة تتعرض للإبادة.
لو لم يكن الحكام عملاء، فإنه حتى الدولة القطرية لا يتحقق أمنها القومي داخل حدودها فقط، بل يجب أن يكون حولها مجال مضمون من الأمن، لا أن تترك الخطر على أطراف أسلاكها الشائكة، بل إن التاريخ يؤكد أن دعم الثغور المواجهة للعدو، وكذلك الأطراف، هو من ضمانات الدول للبقاء وعدم السقوط، ولقد كانت بغداد أيام المغول في قلب العالم الإسلامي وبينها وبينهم آلاف الأميال، ولكن السكوت عن تساقط الثغور والقلاع والبلدان تباعا أوصل المغول إلى قلب العالم الإسلامي، حتى سقطت بغداد، ولذلك فإن أمن مصر القومي يمتد إلى غزة والسودان وأبعد من ذلك، ولقد كانت معركة عين جالوت التي خاضتها الجيوش المصرية يوما في الشام إنقاذا لمصر من خطر المغول وغزوهم، وكذلك فإن أمن الأردن هو في فلسطين وسوريا والعراق، وأمن تركيا هو في سوريا والعراق، فكل للآخر هو ثغر، وإلا فكيف يكون سكوت مصر والأردن عن المحرقة في الأرض المباركة هو بعينه الأمن القومي لولا الخيانة والعمالة كما ذكرنا أعلاه؟
وهكذا فقد دمرت القطرية والوطنية ما يسمى بالأمن القومي حتى للأقطار نفسها، وكان التخلي عن رابطة الأمة وبنيتها تجرد من أهم الأسلحة، بل ولقد صار الأمن القومي لتلك الأنظمة العميلة في كثير من الأحيان قائم على معاداة بلدان الجوار أو قوى الداخل باعتبارها العدو، مع أن وجود القواعد الأمريكية في الأردن أو وجود الكيان على حدود مصر أخطر بكثير من بدو سيناء ووجود حماس، وحتى صارت تنظر مصر والأردن إلى لجوء أهل غزة كمهدد للأمن القومي، وأما يجري من استئصال للمجاهدين على ثغرها فلا يهدد أمنها.
أمن الأمة والدولة في نظر الإسلام:
لقد جاء الإسلام باعتبارات وأحكام شرعية شكلت بمجموعها نظرة الإسلام لأمن الدولة والأمة، فكان تطبيقها ضمانا لعزة الأمة وأمنها، ولقد مثلت سيرة النبي عليه الصلاة والسلام التجربة الحية لذلك، وكان مقدار التمسك أو التراخي من قبل الأمة بتلك الأحكام والاعتبارات هو الذي يحدد مستوى أمنها العام، ومن النقاط التي تعطي لمحة عن كيفية تناول الإسلام لهذه الناحية ذكرا لا حصرا، وإجمالا لا تفصيلا هي النقاط التالية:
1 – وضع الإسلام تعريفا واضحا للعدو وطبيعته وأحواله وصفاته، كالكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، موضحا خصائصهم شارحا أحوالهم وكيف يجب أن تكون العلاقة معهم، قال تعالى (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا)
2 – أوجب الإسلام على المسلمين وحدة الدولة والجيش، ووحدة الأمة، متلاشيا بذلك أسباب الضعف والفشل، وانعدام التكامل واحتمالات الخذلان، وأمر بالاعتصام وعدم التنازع المؤدي للفشل.
3 – ويلحق بالنقطة السابقة، النصرة في الدين للطائفة البعيدة من المسلمين، حتى لو لم يكونوا من حملة التابعية، وكذلك تحصين الثغور ونجدتها، وأن يتحقق قول النبي عليه الصلاة السلام " المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم"
4 – أمر الله عزوجل بإعداد القوة، وأن يتحقق في ذلك الأعداد الإرهاب، والردع للعدو القريب والبعيد، والظاهر والخفي (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) ويلحق بتلك النقطة تعلم صناعة الأسلحة، السيطرة على الموارد، ومركز المال والاقتصاد والكفاية الذاتية، والسعي لكل عناصر القوة.
5 – أحكام الجهاد التي تقتضي طبيعة المبادأة والمبادرة واستمرار النشاط الجهادي، حيث يشكل الرعب والردع " نصرت بالرعب مسيرة شهر"، وخلاف ذلك هو ذل "وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ" وتركه تهلكة (وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ)، والحرب هي رعب للعدو المشتبك ومن خلفه (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). وقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجال أمن حول المدينة بتطهيره من كيانات يهود.
6-اتقاء عوامل الاختراق والهدم الداخلية والخطر من الباطن، حيث نبه القران الكريم إلى المنافقين وصفاتهم وحذر منهم، وكذلك المرجفين، كما نهى أن يتخذ المسلمون بطانة من دونهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)
7 – التربية العقائدية والتحصين الإيماني، واعتبار العبث أو التمييع أو التفكيك في تلك الناحية خط احمر، والتهاون فيها عامل هزيمة، وقد تضمن هذا المعنى قول النبي عليه السلام "يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ".
وأخيرا:
فإن هذه نقاط ذكرت في مسألة ما أطلق عليه الأمن القومي، ومن خلالها نستنتج أن حكام المسلمين والأنظمة الحالية قد فرطوا في أمن الأمة أيما تفريط، وقد عرضوها للهلاك، ولا نجاوز الحقيقة إن قلنا أن مفهوم الأمن لدى تلك الأنظمة هو على النقيض مما يقتضيه أمن المسلمين وتفتضيه نظرة الإسلام كما عرضناها، بل صار التخلص من وجودهم ضرورة وجودية وأمنية، كما هو فريضة شرعية، ولعل هذا الأمر بات قريبا بإذن الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ).
*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين