"ما حصل في الأردن، سيبقى في الأردن"، هكذا علق ما يسمى بوزير الأمن القومي في كيان يهود إيتمار بن غفير على تفاهمات اجتماع العقبة الذي انعقد برعاية أمريكا ومشاركة السلطة الفلسطينية والنظام الأردني والمخابرات المصرية وكيان يهود، وقد اتفق على بنود ترضي كيان يهود مقابل أن يوقف التصعيد في مدن الضفة، وكان من أبرز تلك البنود، إعطاء فرصة للسلطة لتشكيل كتيبة عسكرية بتدريب أردني وإشراف أمريكي تتولى السيطرة على المدن وتصفية المجاهدين (أي قتال المجاهدين نيابة عن كيان يهود) وهو ما عرف بخطة الجنرال مايكل فنزل، وهذا يمثل إغراء كبيراً لكيان يهود لخفض التصعيد ودعم السلطة لإعادة قبضتها الأمنية على جنين ونابلس، ولكن يبدو أن يهود يفكرون بما هو أبعد من سلطة عميلة تقاتل نيابة عنهم، ولهذا يمكن أن يكون تصريح بن غفير الأحمق والعبيط سياسياً هو التصريح الأقرب لوصف القمة ومخرجاتها، حيث جاءت الترجمة العملية لتصريحاته مباشرة بعد القمة بهجوم المستوطنين الهمجي على بلدة حوارة بحماية الجيش في مشهد يعيد للأذهان جرائم مجموعات الهاجاناه قبيل النكبة عام 1948.
لقد بذلت أمريكا جهداً واضحاً لخفض التصعيد في فلسطين، فجاءت الزيارات المكثفة والمتتالية للمنطقة على مستوى دبلوماسي رفيع شمل وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستوى مخابراتي عالٍ تمثل بقدوم وليام بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية سي آي إيه وأيضا لقاءات في مصر والأردن، وكذلك تحركات من النظامين الأردني والمصري بما ينسجم مع تلك التحركات الأمريكية. وقد أرادت أمريكا بلورة وإعلان نتيجة وعصارة تلك التحركات بقمة عنوانها خفض التصعيد ومضمونها خدمة كيان يهود وحفظ أمنه بمساعدة السلطة الفلسطينية، فكانت قمة العقبة وتفاهماتها التي يبدو أن كيان يهود لا يقيم وزناً لها. خيانة وانبطاح من السلطة وصل حد الاستعداد لقتل أهل فلسطين نيابة عن جيش يهود مقابل سراب خفض التصعيد والإبقاء على مشروع السلطة الاستثماري!
إن المتابع يرى أن الرياح لا تسير كما تشتهي الأَشْرِعَة الأمريكية، حيث الأحداث باتت تتجاذبها النظرة الأمريكية لقضية الشرق الأوسط وصاعق تفجيرها قضية فلسطين وفق مصالحها وأولوياتها السياسية بوصفها دولة أولى في العالم ترسم السياسة العالمية وتتحكم في قضايا العالم الكبرى وتضع الخطط والأساليب وتقرر في أي ملف تنشغل وأي منطقة تعمل وفق مصالحها وأولوياتها، وهي الآن مشغولة بملفين مهمين هما الصين وأوروبا بما فيها روسيا ولا تريد حالياً الانشغال في ملف الشرق الأوسط؛ لذلك فهي تريد خفض التصعيد. ونظرة كيان يهود بمكانته المحلية المحصورة في فلسطين للقضية وفق مصالحه القومية التوراتية التي يسعى لتحقيقها من خلال التصعيد في الضفة والقدس.
وهذا التجاذب الحالي هو ما يعرقل تفاهمات العقبة والتحركات الأمريكية، ونصفه بالعرقلة لأن كيان يهود مهما علا وانتفخ فهو في النهاية كيان مصطنع لا بقاء له دون أمريكا وعملائها في المنطقة، ولكنه يستغل مكانته الخاصة عند أمريكا والدول الكبرى في التحرك والمراوغة والتفلت من التفاهمات، فإن تحول هذا الاستغلال إلى تمرد كما هي الإرهاصات الحالية فعندها تتدخل أمريكا وبقوة لمنع اشتعال المنطقة وتفاقم الأحداث، لأن الدلال الأمريكي هو ضمن مشروع الدولتين أو في أضعف أحواله ضمن ما لا يعتبر قضاء تاماً على المشروع، أي بعيداً عن الضم الرسمي للضفة والتهجير ما لم تغير أمريكا نظرتها للحل. وذلك التمرد على التوجه الأمريكي يظهر في توجهات حكومة يهود الحالية التي تريد الضم والتهجير وتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، وهذا فوق أنه إشعال لقضية ومنطقة تريدها أمريكا في حالة هدوء نسبي أو إدارة مقبولة حاليا، فيه خروج عن الخط، وأمريكا تعلم أنه سينتهي بصدام ينهي كيان يهود إلى الأبد، والصدام الذي نقصده هنا هو مع الأمة الإسلامية، وأمريكا حتماً سوف تتحرك لكبح جماح هذا التمرد لمنع تفجر الأوضاع واشتعال المنطقة وحرصاً على مشروعها الذي يحفظ بقاء ووجود كيان يهود، ولكن هل تكون طبيعة هذا التحرك بإسقاط الحكومة أم تحريك أدوات سياسية وعسكرية في المنطقة أم تصفية قادة من أحزاب اليمين مثل بن غفير وسموتريش أم دعم الاحتجاجات المعارضة لنتنياهو في الداخل، أم أن حكومة كيان يهود تتراجع من تلقاء نفسها أو تحت الضغوطات خطوة إلى الوراء لتجنب الغضب الأمريكي، أم أن الأمور تتفلت من الخطوط الأمريكية وينفذ كيان يهود أجنداته؟ هذا ما سوف يكشفه قادم الأيام.
إنه لمن المؤلم أنه عندما نتحدث عن قضية إسلامية عظيمة ومقدسة مثل قضية فلسطين نقول أمريكا وكيان يهود ونظرة كل طرف للقضية! بينما هنالك طرف مغيب عن المشهد هو صاحب القضية وأمها وأبوها، ألا وهو الأمة الإسلامية، وهذا الطرف المغيب عن المشهد بفعل الحكام العملاء عليه أن يدرك أن الوضع خطير وأن الأمور قد تذهب إلى مزيد من التصعيد وقد تنتهي بالضم والتهجير. وأن هذه التحليلات السياسية نبينها وقلوبنا تبكي فهي شر في شر، ونذكرها ليس للترف والمتعة بل حتى نبين للأمة الإسلامية مدى الخطر المحيط بالأرض المباركة وأهلها، وأن الأنظمة الحاكمة قد انحازت منذ زمن بعيد لصف الشيطان، وأن خيانتها قد بلغت عنان السماء ولا يعول عليهم في وقف كيان يهود أو كبح جماحه، بل هم من خلال التطبيع جعلوا له أجنحة ليطير ويحلق عالياً في أحلامه التوراتية وقوته الإقليمية، وهو على الحقيقة كيان هش ضعيف، وأن الواجب على الأمة بجيوشها وأبنائها التحرك السياسي لإسقاط الأنظمة العميلة والتحرك العسكري لإنقاذ إخوانهم في الأرض المباركة وتحرير مسرى النبي ﷺ، فالدم الدم والهدم الهدم والولاء للعقيدة، والقضية هي قضية أمة وأرض إسلامية مغتصبة وليست قضية شعب مبتور أو وطن يحده سياج الاستعمار!
بقلم: د. إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)