الدكتور ماهر الجعبري – عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
 
هنالك إصرار شديد لدى القيادة الفلسطينية الرسمية على نهج المفاوضات لا مثيل له، في مقابل استنكار صارخ للأعمال العسكرية ضد الاحتلال في كل مناسبة، وإذا تحدثت القيادات الفلسطينية بلسان عربي فإنها تتوجه للأنظمة العربية طالبة منها أن تتحرك لتفعيل نهج المفاوضات وتحريك العملية السياسية، ولا تطالبها بالقيام بمسؤولياتها الأساسية والشرعية تجاه أرض استلبت منها عندما تخلّت عنها، بل إن تلك القيادات تواجه من يتحرك في اتجاه تحريك الأمة الإسلامية لكي تحتضن قضية فلسطين وتحرّك جيوشها للتحرير الفعلي، وتضيّق عليه.
 
وهنالك تعلّق دائم بما يمكن أن يحمله ميتشل في زياراته المتكررة، وهنالك تعطش للارتواء بما يمكن أن يتلفظ به أوباما، وهنالك مطالبة ملحّة لتدخّل الاتحاد الأوروبي للقيام بدور فاعل، وهنالك دعوة للأنظمة العربية أن تبادر من جديد، وهنالك استشراف لما يمكن أن يتمخض عن مؤتمر موسكو، وهنالك تمسك بقانون دولي جائر شاهد المجازر التي ارتكبت ضد أهل فلسطين مرارا وتكرارا ولم يتمخض عنه شيء. وكل ذلك تعلّق بحبال من يتآمر على قضية فلسطين.  
 
ولا شك أن هذه القيادة تمتلك رؤية ثابتة لا تتزحزح عنها، تعبّر عنها مشاهد المصافحة مع قادة الحرب في كيان الاحتلال اليهودي، ولا يمكن أن تتصور مشاهد أخرى من مثل المواجهة القتالية في ساحة الحرب. وبالتالي فهي تصّر على الوسائل السياسية والتفاعل مع المجتمع الدولي في اتجاه تحريك عملية السلام، لعودة مشاهد المصافحة تلك، ولا تقبل التفاعل مع الأمة الإسلامية حسب قناعاتها الراسخة في وجوب خلع الاحتلال اليهودي من جذوره.
 
ومن نافلة القول أن نهج المفاوضات لا يمكن أن يؤدي إلى التحرير الفعلي، وجل ما يمكن أن يتمخض عنه، في حال تليين قادة الاحتلال اليهودي من خلال عمليات المعالجة بالتسخين والتبريد، هو دويلة هزيلة أعلى صفاتها أنها "قابلة للعيش"، ولم يسمع أحدٌ أيّا من هذه القيادات الرسمية يصفها يوما بأنها "قوية"، مما يوحي بقبول حالة الاستضعاف السياسي، وقبول كيان هذه الدولة كالمريض الذي لا يقوى على الحركة إلا بالمنشطات والأدوية، ليبقى قادرا على الحياة. وإذا زاد بعضهم من صفات أخرى لتلك الدولة-الرؤية- فلا تخرج عن صفات "المؤسساتية والخدماتية" وكأنها بلدية كبيرة لرعاية حياة الناس اليومية. فأي رؤية هذه التي يمكن أن تحملها قيادة لأمتها ؟
 
إن التقييم النزيه لهذا الوضع من "الجمود السياسي"، يؤكّد فشل-بل بطلان- نهج المفاوضات، الذي ثبت المرة تلو الأخرى، وخصوصا عندما يكون التفاوض مع محتلين لا يؤتون الناس نقيرا، بعد أن صار لهم نصيب من الملك في ظل الحماية والرعاية والأمريكية،  ويؤكد المعادلة البسيطة في مواجهة الاحتلال والقائمة على علاقة "لا يفل الحديد إلا الحديد"، وخصوصا إذا كان حديدا يهوديا حاور موسى –عليه السلام- في نوع البقرة ولونها، وهو نفسه الذي خاض حوارات تفاوضية حول لون الزجاج الذي يجلس خلفه على معابر هذه الدولة الموعودة.
 
إذاً، فالسؤال الجوهري للقيادة الفلسطينية: أين تقودون دفة هذه السفينة ؟ ولماذا تصرّون على كل ما لا يؤدي إلى التحرير وقد ثبت فشله وترفضون كل ما يؤدي للتحرير فعلا وقد أثبت التاريخ نجاعته عدا عن أنه مطلب شرعي ومبدئي ؟
 
لعل البعض يعتبر أن هذا السؤال موجه إلى غير وجهته الصحيحة، ولعلّه يعتبر أنه أمام قيادات قد وضعت أصابعها في آذانها واستغشت ثيابها وأصرت واستكبرت استكبارا، ولا يمكن أن تسمع إلا لغة "السلام" المزعوم، وما يتوافق مع أجواء العلاقات الدولية، وما لا يتناقض مع قواعد "الحرب على الإرهاب"، التي ترفض أزيز الرصاص، إلا إن كان أمريكيا أو "إسرائيليا" أو غربيا.
 
ورغم هذه التحفظات المعنوية، فإن القيام بالمحاسبة السياسية، التي هي واجب لا يمكن التنصّل منه وحتى والحالة كذلك، يجب أن يدفع الناس دائما للمسائلة عن هذه الحالة من فقدان البوصلة في قيادة سفينة تلاطمت بها أمواج المؤامرات الدولية والعربية منذ مطلع القرن المنصرم.
 
ثم إن تعزيز ثقافة المحاسبة السياسية بين أتباع الفصائل الفلسطينية، وخصوصا تلك التي تعتبر أن هذه الرؤية تعبر عن مشروعها السياسي، أمر هام للتقدم بالعمل السياسي في فلسطين، إذ كيف يمكن أن تسير الأتباع خلف قيادة فاقدة للبوصلة؟
 
وهذا السؤال يجب أن يلحّ على أذهان من يصفّق لتلك القيادات. ومن ثم يجب أن يتساءل الجميع: إلى متى يستمر فقدان البوصلة ؟ وإلى متى تبقى هذه القضية مرتهنة بأيدي من فقد البوصلة ؟