الدكتور ماهر الجعبري – عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير - فلسطين
قد يكون من العبث محاولة إسقاط "تجربة العمل النضالي الفلسطيني" أو حركة التحرر الوطني، على تجارب الشعوب والأمم عبر التاريخ، فهي خاصة وفريدة في العديد من معالمها:
هي أول حركة تضع السلاح لتستلم الملفات التفاوضية من أجل تركيب سلطة تحت الاحتلال قبل أن تنفّذ مشروعها التحرري، الذي ادّعته، حتى صار طبيعيا أن يتحول اختصار منظمة التحرير فيها من (PLO) إلى (PNO) للتدليل على واقعها الصريح كمنظمة للتفاوض (Negotiations)، بدل التحرير.
وهي أول حركة تُجرِّم العمل الذي كانت تُنظِّر على أنه طريقها لتحقيق ذلك المشروع التحرري، فيصبح فيها الكفاح المسلح تهمة يتبرّأ منها أقطابها.
وهي أول حركة يستوزر فيها ثوّارها تحت الاحتلال، ويتحولون من "الخنادق" المدّعاة إلى الفنادق المشاهدة، ويقبلون أن يتوقفوا على "حواجز" الاحتلال ليبرزوا بطاقة "الرجل المهم" التي يصدرها الاحتلال، ولا يدخلون أو يخرجون إلا بإذنه.
وهي أول حركة يتحوّل فيها مفهوم "العبور" من التسلسل سرا عبر "المخاضة" إلى التبختر زهوا في موكب يتحرك بأذون وتصاريح رسمية بلغة المحتل، بل وتأشيرات دخول تصدرها سفارات الاحتلال نفسه للمناضلين القدامى أنفسهم.
وهي أول حركة تحرر وطني تتحول الكف فيها عن زناد البندقية إلى مصافحة المحتل. وهي أول حركة يتحول رجالاتها عن مقاتلة الاحتلال إلى حراسة أمنه بعدما قبلت أن تكبّل باتفاقيات أمنية صاغها من زرع الاحتلال نفسه، ورعاه.
وهي أول حركة يتحول فيها السجين عند الاحتلال إلى سجّان تحت سلطة الاحتلال. وتتحول سنوات السجن لدى الاحتلال إلى رتب أمنية لمن يحمل السلاح بإذن الاحتلال. وهي أول حركة يتحوّل فيها المناضلون –الذين لا شك أن منهم من حمل سابقا مفهوم التضحية بصدق- إلى موظفين يتجسد فيهم مفهوم الاسترزاق بواقعية.
وهي أول حركة في جوانب عديدة أخرى يمكن للمؤرخين مستقبلا أن يتدارسوها، ومع ذلك فهي لا شك ليست أول حركة في الانقلاب على مشروعها المدعّى: فهنالك العديد من تجارب التحرر من الاستعمار في بلاد المسلمين، التي أنجزت طرد الاستعمار بجنوده، ولكنها أبقته بنفوذه، من خلال من ينفذ مصالح ذلك الاستعمار، بعدما نصّب أنظمة صنعها على عينه وبصره.
قد تكون المكاشفة قاسية، وقد يُعتَبر المُكاشِف مغامرا، وقد يغضب البعض، وقد يصدّق البعض وقد يكّذب البعض الآخر، وقد يفكّر البعض ويتأمل، ولكن مع كل ذلك، فإن استحضار مشهد واحد من مشاهد هذا المشروع التحرري يكفي لإدراك هذه المكاشفة: هنالك مشهد بسيط لا يمكن أن يغيب عن ذاكرتي، حين تصدى عناصر هذا المشروع التحرري لجنازة شهيد، أحسبه كذلك ولا أزكّي على الله أحد، لإسقاطه عن نعشه، بعدما سقط وهو يصرخ لا للتطبيع مع الاحتلال في أنابوليس. إنه مشهد مؤلم، قد يفوق في حدته مشهد عبد الله الصغير وهو يبكي سقوط الأندلس، عندما قالت له أمه:
"ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال".
لأن هذا السقوط الجديد هو سقوط قيم، بينما سقوط الأندلس كان سقوط أرض إسلامية، كما سقطت فلسطين، التي لن تنام الأمة عن استعادتها عند التمكين في الأرض.
لا شك أن المكاشفة مؤلمة، ومع ذلك يمكن لأي "مناضل سابق" في هذا المشروع التحرري أن يستوعبها من خلال مقارنة بسيطة بين ما كان "يحمل" خلال الانتفاضة الأولى-مثلا- وبين ما يحمل اليوم، على الحقيقة وعلى المجاز: فربما وجد يده-سابقا- تقبض على قنبلة أو زجاجة "مولوتوف" (وهو مصطلح لا شك أنه يغيب اليوم عن التداول في هذا المشروع التحرري)، بينما يجد اليوم يده اليسرى تقبض راتبا مدفوعا من أموال المانحين الغربيّين، في مقابل أن تحمل يده الأخرى هراوة لتحقيق متطلب الأمن الذي تفرضه خارطة الطريق، بل وربما يجد يده التي تحمل الهراوة نفسها، لا زالت تحمل آثار انفجار خاطئ لتلك القنبلة أو الزجاجة، وهي نفسها –رغم نقصان عدد أصابعها نتيجة تلك الآثار- تصفع اليوم "رفيقا نضاليا" قديما، أو تدقّ بابه لترعب أبناءه في ليل هذا السقوط.
هي صورة حادة ومؤلمة، وهي ليست من نسج الخيال، فلا أشك أن بعض من سيقرأ هذه المقالة سيتحسس يده ويتفقد جروحها القديمة، عند هذه الفقرة. بل سأرسلها لمن يسكن اليوم مقرا أمنيا، بعدما صرخ يوما في حيّنا: أغيثوني، وذلك عندما انفجرت قنبلة في يده، قبل أن يقذفها، اعتقله الاحتلال وهو اليوم يعتقل الناس: قد تقفز من عينه دمعة –على حين غفلة- كدمعة عبد الله الصغير، ولكن مفهوم الاسترزاق المستشري سيبقيه في مقره. ولذلك ظلت صورة عبد الله الصغير وضيعة في التاريخ لأنه لم يصح في الوقت المناسب.
وربما كان المناضل السابق "يحمل" مفهوم مقاومة الاحتلال لخلعه من كل أرض فلسطين، بينما يجد اليوم نفسه يعمل موظفا لحفظ أمن ذلك الاحتلال مقابل كنس بعض مظاهره في الجغرافية الجديدة لكلمة فلسطين، والتي أصبح تاريخ الرابع من حزيران عام 1967 يمثل حدودها، بعد أن كان يمثل تاريخ نكستها.
إذاً، قد لا تكون هنالك حاجة لمقارنة "تجربة العمل النضالي الفلسطيني" بغيرها من تجارب الشعوب، فقد تكفي مقارنة "مناضلي" الأمس بموظفي اليوم، لتكشف خصوصية هذا المشروع الوطني الفلسطيني.
وهذه الخصوصية لهذا المشروع الجديد تترجم اليوم بمنطق الشراكة الربحية، وهو امتداد طبيعي لمنطق الاسترزاق: فقد صارت هنالك معادلة للعمل الوطني، تبدأ بالمنّ في "قدّمنا"، وبالطبع لا تكتمل إلا بجملة مضمرة أو صريحة: "لنأخذ حصتنا". وكأنه مفهوم شركة الجهد (الاستثمارية)، حيث يأخذ كل شريك من الحصص بمقدار ما يقدم من الجهد. وبهذا المنطق يصبح للشهيد ثمن، ويصبح عدد الشهداء رصيدا في بنك العمل الوطني، لكي يُتحصّل يوما ما وبأسلوب ما، ولو كبطاقة دخول إلى استوديوهات الفضائيات.
إن الإشكالية التكوينية هي اليوم في إفراز طبقة كبيرة في فلسطين تشرّبت مفهوم الاسترزاق من خلال العمل السياسي: ابتداء من طبقة المتنفّذين والممثلين السياسيين، وانتهاء بطبقة المؤيدين والأتباع الذين يبيعون المواقف السياسية من أجل وظيفة بسيطة تُقيم أوَد عائلة في زمن العوز، أو حتى من أجل تسديد رسوم جامعية لطالب يصفق مع التيار.
وإن الإشكالية الثقافية اليوم هي في وجود منطق التبرير لتلك الممارسات، التي هي ردة على ثقافة ذلك المشروع التحرري، لدى فئة من أصحاب المواقع الإدارية، ولدى من يعتبرون أنفسهم يحملون ذلك المشروع التحرري، تحت ذرائع الواقعية، وتحت ضغط "المصلحية" التي تشربتها النفوس في غفلة عن ثقافة التضحية. والإشكالية أيضا هي في تحول العمل السياسي إلى مهنة يُتكسّب منها، بدل أن يكون قضية تُقدم المهج قبل الأموال من أجلها.
وهذا التخريب الكبير لثقافة التضحية هو الألم الأكبر، وهو سقوط أكبر من سقوط فلسطين، تحت الاحتلال. وفادحة خراب الثقافة أفظع، لان وجود التضحية كفيل بتحرير فلسطين عندما تُسترد الهمم وتتكاتف، بينما وجود الاسترزاق كفيل بتضييع فلسطين وأهلها للأبد.
فهل يمكن اليوم استعادة ثقافة التضحية ؟ سؤال صعب في مقال ملغوم عرضة لأن يتحول إلى تهمة أمنية بعد غلبة مفهوم الاسترزاق في هذا المشروع "الغريب" !